الخميس، 11 يناير 2024

*الفصل الرابع:

 *الفصل الرابع:

- من رواية (ملح السّراب) -
مصطفى الحاج حسين.
كان عائداً من عمله، منهكاً لا يقوى على جرّ نفسه، فتحت له (مريم) الباب، وهتفت بفرح واضح:
– (رضوان).. أنا أعرف كتابة اسمي.
ظنّها تهلوس، فهي أمّيّة مثله، فسألها ساخراً:
– وكيف تعلّمتِ الكتابة يا عبقريّة؟.
– من (سميرة)، هي التي علّمتني.
خفق قلبه، أمعقول هذا؟!.. هل يمكن له أن يتعلّم، وهو ابن الثانية عشرة، وبرقت في ذهنه فكرة، سرعان ما كبرت، قبل أن يخطو عتبة الغرفة:
– سأعرض على (سامح) أن يعلّمني، سأرجوه وإن رفض.. سأشتري له (البوظة).
وفجأة.. شعر برغبة عارمة، في رؤية (سامح)،قرر أن يذهب إليه حالاً، وقبل أن يغسل يديه ووجهه من الغبار والعرق، ودون أن يغيّر ثيابه المهترئة
والمتّسخة، قفز مسرعاً، بينما كانت أمّه
تعدّ له طعام الغداء.
دخل بيت عمّه (قدّور)، وجد(سامحاً)
محنيّاً على كتابة وظائفه، فقال بسرعة:
– (سامح) أريدك أن تعلّمني كتابة اسمي.
رفع (سامح) رأسه نحوه، وارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه:
– تعلّم الكتابة صعب عليك.
– ولماذا صعب؟!.
هكذا سأل بحنق.
– صعب.. ثمّ ماذا ستستفيد إن تعلّمت كتابة اسمك؟!.
– سأستفيد، سأتعلّم كتابة اسمك واسم أبي وأمّي و (مريم وسميرة) أيضاً.
ضحك (سامح)، فاغتاظ (رضوان) وقد أدرك شعور ابن عمّه بالتفوق عليه، فأحسّ نحوه بكره شديدٍ، غير أنّه وفي هذه اللحظة لا يريدإغضابه، وهو على أيّ حال قادر على ضربه، لذلك كبح
حنقه:
– ماذا قلت؟؟.. هل أنت موافق؟.
هزّ (سامح) رأسه علامة الموافقة،وبقيّ
صامتاً يتطلّع إلى الأرض، كأنّه يفكّر بشيء ما.
– إذاً هيّا بنا.. تعال علّمني.
– لا.. ليس الآن، سأعلّمك ولكن فيما بعد.
– ولماذا فيما بعد؟!.. أنا جاهز الآن.
سأل بلهفة من فقد صبره.
– اسمع يا (رضوان)، هناك فتى في صفّي يزعجني كلّ يوم، وأنا لا أقدر عليه، أريدك أن تنتظره عند باب المدرسة وتضربه.. هذا هو شرطي، لكي أعلّمك، فما رأيك؟.
صرخ (رضوان) دون تفكير، فلقد شعر
بالنّجوة والاعتزاز بنفسه، (فسامح) يعترف بقوّته، بشكل غير مباشر:
– طبعاً أنا موافق.. حتّى من غير أن تعلّمني، فأنت ابن عمي، أنا على استعداد لقتله نهائياً من أجلك.
عاد (رضوان) إلى بيته، وهو يفكر:
– سوف أجعله عبرة لكلّ الطلاب الذين لا أحبّهم، فأنا قويّ، الجميع يشهد لي بذلك، وكلّ من يدرس يحسدني على قوّتي.
في اليوم التالي، وقف (رضوان) قرب المدرسة، ينتظر وهو متفائل بقدرته على سحق خصمه،ولذلك فهو لم يحمل معه سلاحاً، كان يهمس في سرّه:
– سأعاركه بيديّ، وإذا لزم الأمر سأشقّ رأسه بالحجارة.
وكان يتخيّل كيف أنّ (سامحاً) سيحسدّه على قوته، ويعرف أنّه بدونه لا يساوي شيئاً.
بدأ الطلاب يخرجون، فأخذ يحملق فيهم أحداً واحداً.. ولاح له (سامح) يرتدي صدريّته ويحمل حقيبته، ولمّا اقترب منه كان وجهه مصفراً، فدنا
منه وهمس:
– (رضوان).. أنا خائف.
فصاح (رضوان) بصوت مرتعش:
– ولماذا تخاف؟؟!!.. أنت دلّني عليه فقط.
فقال (سامح) بصوته المضطرب:
– سيعرف أنّك ابن عمّي، وسيقدّم شكوى بحقّي للأستاذ.
– لا عليك.. لن أجعله يعرف من أنا.. سأتبعه إلى أن يبتعد، ثمّ أنقضُ عليه وأرميه مثل الكلب فوق التّراب.
ابتعد (سامح) كالمذعور وهو يهمس:
– لقد جاء.. ها هو، ذاك الذي يحمل حقيبة سوداء كبيرة.
نظر (رضوان) حوله، فشاهد عدداً كبيراً من التّلاميذ متشابهي الثياب، غير أنه عرف خصمه من بينهم، صاحب المحفظة السّوداء، وعندما اقترب منه، وجده أطول قامة، وتظهر في وجهه علامات القوّة والشقاوة، تبعه( رضوان) بينما كان(سامح) يبتعد، وهو ينظر خلفه، بين اللحظة والأخرى.
دخل الخصم في زقاق جانبي، وأخذ يسرع خطاه، عندما عاجله (رضوان) بصرخة قويّة:
– توقّف ياكلب.. توقّف عندك.
التفت ذو المحفظة السّوداء مستغرباً، فرأى (رضوان) مسرعاً نحوه وهو
يصرخ:
– نعم.. أنت.. توقف، سوف ألعن أباك.
وفور وصوله هجم عليه، مسدداً ضربة قوية على وجهه، فحمل هذا محفظته، وهوى بها على وجه (رضوان) فتدفق الدّم من أنفه غزيراً، فجنّ جنونه..
وزعق:
– سأفعل بأمك يا ابن ال ….
والتقط حجراً كبيراً وقفذف بها خصمه، الذي تفاداها ببراعة، واشتبكا بقوة، وكلّ يحاول أن ينتف شعر الآخر، بينما دم (رضوان) يسيل على وجهه، والتفّ الصبية يتفرّجون على المشهد المثير، ومن بعدٍ لمح (رضوان) ابن عمّه (سامحاً) واقفاً يراقب المعركة، فشعر نحوه بالحقد، كيف يقف هكذا دون أن يساعده، فهذا الخصم قويّ لا يستهان به، وندم لأنّه لم يأت معه بسلاح، وأصابه الخجل عندما استطاع خصمه أن يلوي له ذراعه، لا بدّ أنّ (سامحاً) يسخر منه الآن، يده تكاد تكسر تحت ثقل الضغط، ففكر أن يستغيث
(بسامح)، ولكن قوته المزعومة ستهتز حقاً في نظر (سامح).. تألم كثيراً ولكنّه استطاع في اللحظة الأخيرة أن يصرخ:
– اترك يدي ياابن السّافلة.. لقد كسرتها.
ولم يكد يكمل عبارته حتّى جاءته ركلة على مؤخرته، تحرّرت يده وركض يبحث عن حجر، لكنّه وجد صاحب المحفظة ينحني على الأرض،
فانطلق يعدو وخلفه خصمه، وهو يهتف:
– توقّف يا جبان.. سألعن أباك.
حول سور المدرسة قعد (رضوان) حاملاً في طيّات نفسه ذلّه وانكساره، لقد هزم.. ياللفضيحة، وكان يتساءل:
– كيف سأقابل (سامحاً)؟. وماذا سيقول هذا الوغد (لسميرة)، التي أتظاهر أمامها دائماً بالقوة؟؟.. اللعنة عليك يا (سامح)، هل نصبت لي فخاً
؟!؟!.. هل كنت تعرف مدى قوة ذلك
السّافل؟؟.. ودفعتني لأتعارك معه؟..
أكنتَ تمتحن قوتي؟!.. أم كنت مخدوعاً بقوتي مثلما كنتُ أنا مخدوع.. ولكنّي سأريك قبل أن أري خصمي، بأنّي لست جباناً.. فإن هربت اليوم، فذلك لأنّي متعب من العمل، في الغد سأحتال على أبي وأبقى في البيت، وآتي إلى المدرسة، قسماً سأهشّم رأسه، سأضربه حتّى الموت.. فلا تسخر منّي ياوغد، وإياك أن تذكر شيئاً أمام أختك
(سميرة).
ما كان عليّ أن أهرب ، كان عليّ أن أحمل سلاحاً، وأن أجد حجراً، بدل أن أهرب.. اللعنة على الحجارة، حين نحتاجها لا نجدها.. ما أبشع الهزيمة؟!.
ظلّ (رضوان) هكذا متوارياً، يفكّر.. وها قد حلّ الظّلام، ولا بدّ له أن يعود، قبل أن يتفقّده أبوه.
وفي اليوم التالي ، استطاع (رضوان) أن يحتال على أبيه، ولم يذهب إلى الشغل، نهض من فراشه متّجهاً نحو المطبخ، وأخذ يتفحّص السّكاكين،
فانتقى واحدة لينتقم بها لكرامته ويستعيد ماء وجهه من خصمه، وبسرعة أخفاها وراء ظهره،حين دخلت عليه أمّه سائلة:
– لمَ تركت فراشك وأنتَ مريض؟.
فهرب أمامها دون أن تلمح السّكين،
إنّه لا يخافها على الإطلاق، وهي أيضاً تتستّر عليه فلا تخبر والده بما يفعله.
ولقد كتمت أمر تدخينه السجائر أمامها
رغم تهديداتها المتكررة.
كان عليه أن ينتظر، ريثما يحين موعد انصراف طلاب المدارس، فقضى هذا الوقت في محاولة تجربة السّكين في قطع الأشياء، وقام بالتدريب عليها
حيث يقفزها بقوة عن بعد، فتعلق بأعمدة الكهرباء. لم يشأ أن يقابل (سامحاً)، أجّل ذلك ريثما يستردّ كرامته ويحقّق انتقامه، وأقسم:
– لو أنّي رأيته الآن، وشعرت بأدنى بادرة منه على السّخرية والتقليل من شأني، لكنت قتلته بالسكين فوراً.
انصرف الفوج الأول، وتدفق الأولاد مندفعين مبتهجين لاستعادتهم حريتهم، فأسرع إلى زقاق معركة الأمس، مصمّماً على الانتقام، في نفس
المكان الذي شهد انهزامه، حتّى لا يشعر بالخجل والعار كلّما مرّ به.
وقف عند الزاوية مترصداً الذاهبين والقادمين، إلى أن برز خصمه قادماً من بعد، خفق قلبه في حين اشتدّت قبضته على السّكين.. اختبأ عند
المنعطف محدثاً نفسه:
– سأباغته بطعنة في بطنه.. وأهرب.
حينما اقترب ذو المحفظة السّوداء، وصار بمحاذاة المنعطف، برز له
(رضوان) شاهراً سكّينه بيده، انتبه الولد لهذه الحركة السّريعة، فتجمّد مكانه لا يعرف ماذا يفعل، فسارعه (رضوان) بهجمة تريد أن تصل بطنه بطعنة خارقة، وقبل أن يصل إليه،
انقضّت يد جبّارة لرجل شاهد(رضوان)
يمشي خلف خصمه، ولكنه لا يدري كيف غفل عنه.
زعق الرجل وهو يشد بقوة يد (رضوان):
– ارمِ السّكين على الأرض ياكلب.. كدت تقتل ابني.
سقطت السّكين.. وصرخ (رضوان):
– دخيلك ياحجي.. اتركني.
في تلك اللحظة شاءت الأقدار أن ينعطف (قدور)..(أبو سامح)، في هذا الزقاق، ويبصر ابن أخيه، فركض نحو الرّجل صارخا:
– (تترجّل) على ولد ياجبان؟!.
– سألعن والده.. كاد يقتل ابني.
لم يحتمل (قدّور) وسدّد قبضة قويّة على عين الرجل، فترنّح الرجل بينما كانت يده تضغط مكان الضّربة، وبدأ الصّياح، فالتمّ الأطفال حول
المتشابكين، وفتحت النساء الأبواب وبدأن بالصراخ.
وفجأة.. وبسرّعة فائقة.. انحنى الرجل والتقط سكين (رضوان) وقبل
أن يتفاداه العم (قدّور)، كانت السّكين قد استقرّت في بطنه، تعالت الأصوات.. والصرخات.. من كلّ صوب، بينما كانت
عينا العم شاخصتين، لقد أذهلته المفاجأة، وانطلق الرجل القاتل يعدو.. ومن خلفه ابنه.. ووقف (رضوان) يبكي، لا يعرف كيف يتصرّف،
ولم يتحرّك إلاّ بعد أن خرَّ عمّه على الأرض، فأخذ الفتى (رضوان) يركض صارخاً:
– لقد قتل عمّي (قدّور).. عمّي مات.
مصطفى الحاج حسين.
حلب
يتبع..
قد تكون رسمة لـ ‏‏شخص واحد‏ و‏تحتوي على النص '‏ملج السراب مصطفى الحاج حسبن‏'‏‏
كل التفاعلات:
جعفر صادق شلال الحسني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكوى الطبيعة

  شكوى الطبيعة همست ْ بأذن ِالليل ِ أغصان ُالشجر ْ تشكو حنين َ الروض ِ شوقَـَه ُ للقمر ْ والورد بثَّ غرامه ُ متــلهـِّـفا للنور ِ يغمر ُه ُ ...