الجمعة، 8 ديسمبر 2023

قصة قصيرة: الديك والباز.

 قصة قصيرة: الديك والباز.

يُحكى أن بازا أصيب في جناحه جراء هبوطه على فريسة، وصار عاجزا عن الطيران، فـذهب يدرج ويقفز على رجليه حتى وجد مجموعة من الدجاج قرب مزرعة، ورأى الديك وسطهم يصول ويجول وينتفخ وينتفش حتى يصير ضخما، فاستغرب الباز لتصرفات الديك هذه وقال في سره: تُرى من هذا المنتفخ المنتفش؟ الذي لا يُشبع من جوع أو يروي من عطش؟ وأين كان يختفي ويحتمي عندما كنت أجوب الآفاق وأسيح، وأقتفي أثر كل رعديد جبان كامن لا يجرؤ على الظهور والعلن؟ ثم إنه سأل الديك من يكون؟
الديك (مترفعا وشامخا بأنفه): أنا من أكون؟! يا لك من مسكين! أنا يا هذا الآمر الناهي هنا، أنا الزعيم العظيم، أنا الديك الهُمام، ولا يسأل الغريب أصحاب الدار من يكونون، إنما يُعَرِّفُ الغريب عن نفسه بلباقة وأدب، ويُفصح عن سبب مجيئه وحاجته دون تأخير ولا تأجيل ولا طلب، وإني أراك ضريرا، فشكلك يُشبهنا تقريبا ولكنك لست منا، فمن تكون أنت؟ ولأيِّ سبب جئتنا؟
الباز(متمسكنا): أدعى الباز المسكين يا حضرة الديك العظيم، ساقني قدري إليكم لأنني ضرير، وتُهت عن أهلي وقومي، فأرجو أن تقبلوني ضيفا خفيف الظل بينكم حتى يَمُنَّ الله عليَّ بالشفاء، وأعود إلى دياري.
الديك (شامخا بأنفه وبعجرفة): حسنا، قبلتك عندي، ولكن تقيم بيننا وأنت كأيِّ دجاجة من هذا الدجاج، لا أسمع لك صـوتـا أو حِـسًّـا، ولا أرى لك فـعـلا أو عـمـلا، أو أيَّ شيء يُـخـالـف سـلـوك الدجاجات، ولا تُغادر الموقع لأيِّ سبب من الأسباب ــ حتى آذن لك ــ ولو لقضاء الحاجات، ولا تبدأني بالكلام حتى أبدأك، ولا ترد عليَّ قولا، فقط أحب أن أسمع منك: سمعا وطاعة يا سيدي الديك الهمام، فالزم أدب الأديب الأريب يا أيها الغريب، وإلا فإنني سأنسى أنك باز، وأحكم عليك بأن تصير دجاجة، ولا أسمح لك بعدها بالمغادرة.
الباز(وهو محرج ويكاد يتميز من الغيظ): شروطك على العين والرأس يا زعيم، ثم مكملا في سره: لا ضير في أن أُصبح دجاجة لبعض الوقت إذا كنت مهيض الجناح، فما أفعل بعزة نفس الباز والعُقاب والنسر، وأنا حبيس الخم على القسر، إيـ...ـهٍ يا دُنيا! عندما ينكسر جناح الباز يستطيل عليه الدجاج، ولا يُبالي أيَّ خطوط حمراء قد داس واجتاز.
وبعد مدة من الزمن أحس الباز من نفسه العافية والشفاء، فبكَّر في إحدى الصَّبيحات، وتسلل خارج موقع الدجاج دون أن يراه أحد، ولم يستأذن من الديك، وراح يختبر جناحه فوجده سليما مُعافى ويستطيع الطيران، فطار مُحلقا في الأجواء العالية فرحا منتشيا بشفائه ومُعافاته، وبينما هو كذلك إذ تذكر الديك والدجاج، وتذكر الأيام التي قضاها بينهم ذليلا مستكينا، وحـزَّ في نفسه كثيرا تلك المعاملة، والشروط القاسية والمُخزية والمُذلة والمُهينة التي ألزمه بها الديك، فاستدار في طيرانه وعَـرَّجَ إلى حيث موقعهم، فلمحهم من أعلى في القمامة يقتاتون، وبينهم الديك كعادته يصول ويجول وينتفخ وينتفش، فانقض عليه وحمله بين مخالبه، وصعَّد به بعيدا في الأجواء العالية، وفي أثناء التحليق، استدار الباز للديك، وقال مُخاطبا إيَّاه: أهلا بك أيها الهمام في مملكة الجوارح، إنني يا أيها الآمر الناهي في عالم الدجاج، كنت أنوي أن أجعل منك غدائي هذا اليوم، ولكنني أحجمت عن ذلك لسببين اثنين، أولاهما: لم تهن عليَّ العشرة التي كانت بيننا على رغم ما فيها، والثانية وهي الأهم: أنك منفوخ بالهواء، والأشياء المنفوخة بالهواء جوفاء فارغة من الداخل، ولذلك فأنت لا تُشبعني من جوعي، ولو لم أر ذلك بعيني من قـرب لغـرَّني ما رأيت فيك من أعلى ومن بعيد، لو لم أكن أعرفك يا ديك الخم، لقلت يا لفرحتي بهذا الطم، ولكن رغم كل ذلك فإنك لن تنجو من العقاب، حتى أُنسيك الزعامة الزائفة يا أيها الزعيم المغفل، وأعَرِّفْكَ حقيقة نفسك وحجمك الحقيقي والطبيعي، وبعد ذلك سأنزلك وأعيدك إلى قومك.
وعمد إلى نتف ريشه، ثم قال له: اسمع أيها المأفون، قبل أن أنزلك سأُحَمِّلُك رسالة إلى قومك وإلى كل دجاج الأرض: من ملوك الجو والفضاء، إلى كل دجاج القمامة والفضلات والمهملات في كل أنحاء الأرض: من القُم إلى الخُم، ومن يعصي ويجتاز يأكله الباز.
الديك(خائفا): وأين هذه الرسالة يا سيدي العظيم لأحملها إليهم؟
الباز(متشفيا): الآن فقط أدركت أنني سيدك العظيم يا أيها التافه الذميم، يبدو لي أنكم معشر الدجاج لا تثوبون إلى رشدكم ولا تُدركون حجمكم الحقيقي، ولا تعرفون حقيقة أنفسكم إلا بعد نتف ريشكم والتنكيل بكم، فأفّ منكم وأفّ ممن هم طبعهم مثلكم وعلى شاكـلـتـكـم، وأمـا هذه الـرسـالـة فـهـي شفوية وقد سمعتها، فأبلغها عاجلا لا أم لك.
الديك(حزينا ومتشفعا): ولكن أيَّ شريعة هذه يا سيدي التي تُحدد مجال تحركنا وتنقلنا من القمامة إلى الخم؟
الباز: هذه شريعة الأهواء يا ثرثار، ويا أبله.
الديك(متغابيا): أعرف كل الشرائع إلا شريعة الأهواء هذه، في حياتي ما سمعت بها قط، فما تكون؟
الباز: الأهواء يا بليد جمع الهواء، بمعنى شريعتنا نحن الأقوياء الذين نطير في الهواء، ونسبح فيه دون عناء على من هم دوننا من الضعفاء، فلو كنتم أصحاب رأي وعقل وتدبير لكنتم مثلنا، ولأنكم لستم أقوياء مثلنا يجب أن تخضعوا لنا، فكلمة الأهواء مشتقة من الهواء الذي هو لنا دونكم، فنحن الأقوياء سادة، وكل ضعيف دوننا هو لنا خادم وطعام معا، هذه هي شريعة الأهواء يا زعيم الدجاج، فازدد بها علما في زمن قلَّ فيه العالمون بحقائق الأمور، واحظ أنت بعلم شريعة الأهواء دون قومك الجهلاء الأغبياء، حتى تتبين لك الأمور ولا تحرج السادة بعدها بغبائك.
الديك(في سره): هذا معنى الأهواء عندك أنت وعند من هم مثلك، أما عندي أنا ومن هم مثلي وهي الحقيقة التي لا ينكرها العارفون والعالمون، أن الأهواء جمع الهوى، فأنتم تحكمون فينا بأهوائكم لا بهوائكم كما تزعم، وحسبك من الهوى إذا صار شريعة، فإن صاحبه لا يرى إلا رأيه ونفسه، فتراه ينفرد بالرأي وينظر بعين واحدة في اتجاه واحد، ويرسم لنفسه طريقا خاصة به لا يرى فيها إلا نفسه، ولا رأي إلا رأيه، ولا شيء أبدا إلا هو فقط، وإنكم ترون الأمور وتنظرون إليها من زواياكم الخاصة وهي مُظلمة وسوداوية، مما انعكس سوادا على عقولكم وقلوبكم، فصرتم تنظرون إلى الأمور بظلامية وسوداوية، ورحتم تقررون وتنفذون تبعا لذلك، وترون غيركم مخطئين وينظرون من زوايا مظلمة وسوداوية خاصة بهم، وهذا منطق الطغاة الأنانيين المتسلطين، الذين تلوثت عقولهم بداء الظلم والكبر والتجبر والإرهاب، وتجردوا من كل القيم، وصار الشيطان لهم دليلا وقائدا، وإن أصحاب الضمائر الحية والعقول الراجحة، يُدركون ويعرفون من هم الظلاميون أصحاب العقول والأفكار المظلمة المتعفنة، التي جعلت من عالم الطير والحيوانات، عـالـمـنـا نـحـن الـجـمـيـل الرائع، سلسلة من الكوابيس اللامنتهية، بسبب تسلط هؤلاء الأقوياء الأنانيين من بني جلدتنا علينا نحن الضعفاء، الذين لا نملك مخالب ومناسر مثلهم، ولكن صبرا جميلا يا زعيم الدجاج، فلقد حدثني أبي عن جدي عن جده عن جد جده عن أجدادي أنهم قالوا: سيأتي يوم على هؤلاء النسور والعقبان والبزاة، وكل الجوارح الظالمين المتغطرسين، الذين ربطوا مصير حياتهم ووجودهم بأكل لحوم غيرهم ممن هم دونهم، بأن يُعاقبهم الله بنزع نعمة المنسر والمخلب منهم، ويهبها لنا نحن الدجاج وكل المستضعفين من الطيور، ونصير نسورا وعقبانا وبزاة، ويصيرون هم دجاجا وبطا، وغير ذلك ممن لا مخالب لهم ولا مناسر، وحينها سيعلم الظالمون أيَّ منقلب ينقلبون، أما الآن فما حيلة الضعيف العاجز أمام القوي الظالم المتعجرف المستبد؟ ليس من حل أو خيار سوى القبول بأخف الأضـرار عـنـد اشـتـداد الأهـوال والأخـطــار، عـليَّ أن أقـول لـه: سـمـعـا وطـاعـة ونـعم، وإلا فسيقول لي هو: (هَـمْ)، وأصير من الوجود في عدم.
الباز(وقد استبطأ رد الديك): أراك صامتا لا تُجيب يا آكل الديدان والحشرات، هيَّا أسمعني ردَّك حالا، وإلا فإنني سأتراجع عن عـزمي بإطلاق سراحك وأنسى أنك ديك، وأتصورك في رأسي بطة سمينة من دون ريش وأنت تعرف الباقي، فعجل بالجواب قبل أن يُعْجَلَ عليك بالعقاب، عجِّل يا أيها الحثالة قبل أن يُعْجل عليك.
الديك(خائفا): سمعا وطاعة يا سيدي الباز العظيم، سألتزم بقوانين وشريعة الأهواء، التي تفرضها جوارح السماء على بني جلدتي الضعفاء، وسأبلغ الوصية قومي الدجاج، حتى لا يصير سلوكهم إلى الاعوجاج، ويصبح طعم حياتهم مُـرًّا كالملح الأجاج.
وبعدها أنزل الباز الديك، فلما اقترب من موقعهم قذفه وسط الزبالة كما يُقذف كل شيء قذر، وحيث هم فيها وعلى أطرافها يقتاتون، فسقط الديك بالأرض مرتطما من قوة السقطة كجلمود صخر حطَّه السيل من عَـلٍ، وراح يتدحرج من قوة تلك القذفة والسَّقطة أمتارا عديدة، فعلقت به القاذورات وملأت كامل جسمه العاري، والتصقت به حتى صار كأنه مسخ، ثم نهض قائما على رجليه وانطلق يركض على نَفَسٍ واحد، تُطارده جيوش رعبه وفزعه وهلعه، يريد الخم لا يلوي على شيء وهو يسلح، وسلحه يسيل على فخذيه ورجليه، وصارت رائحته قذرة لا تُطاق، ومنظره يبعث على السخرية والشفقة في آن معا، فهو ما صَدَّقَ بأنه نجا، وأن الباز عنه قد عفا، فكان يجري على غير بينة ولا هدى، فتارة يسقط على وجهه متعثرا في حجر صغير بالأرض قد نَهَدَ، وتارة في حفرة يتردَّى، وتارة يُيَمِّن وتارة يُشَمِّل، إلا وراءه فلا استدار ولا التفتَ، ولا فكر في هذا حتى أو قدَّر، فهو إلى الخم قد قصد، لكن غاب عنه الرشد والهدى، فالذي هو فيه أطاش عقله وشوَّش لُبَّهُ وصيَّره في حيرة كبيرة شديدة، أيُيَمِّمُ وجهه شطر اليمين، أم إلى اليسار، أم يُكمل إلى الأمام؟ وظل يتخبط تائها مضطربا، وهو بين كل ذلك في ركض وسباق مع الزمن، ومع الرعب والهلع والفزع حتى وجد خمه، وما إن دخله حتى التزم زاوية من زواياه والتصق بالأرض التصاقا شديدا، وروحه أوشكت أن تفيض أو كادت، وأما الباز فعندما رأى الديك وهو يسقط مرتطما متدحرجا قد علقت به القاذورات، استفزه الضحك وقال متشفيا: نعم هذا ما يليق بك، وبكل تافه على شاكلتك، إن الرعب سلاح فتاك، فمن تمكن من إرهاب عدوه واستطاع إرعابه فقد حقق ثلثي النصر.
وأما الدجاج فعندما وقع عليهم زعيمهم من السماء، فزعوا وأصابهم الرعب والهلع، وتفرَّقوا في البداية هاربين كل منهم في اتجاه لا يلوي أحدهم على الآخر، ثم لما انتبهوا من رعبهم ذاك وصدمتهم تلك، ولما رأوا زعيمهم العاري المنتوف الريش، المكسُوِّ عن آخره بالقاذورات يتجه إلى الخم، تبعوه راكضين، وتزاحموا على باب الخم متدافعين حتى ضاق بهم المدخل، وعلا بعضهم بعضا، وسقط بعضهم على بعض، وما دخلوه إلا بشق الأنفس، ثم تحلقـوا حول زعيمهم وتدفقوا يسألونه ويستفسرونه عن هذه المصيبة التي ألَمَّتْ به وصَيَّرته على هذه الحال، فجعل الديك يبكي بُكاءً مُرًّا وينتحب ويقول: آااهٍ على نفسي، لقد كدت ألقى حتفي، فيا ويلي ويا سواد ليلي، فلولا نعمة ربي لكنت من المُهْلَكِين، وأما سبب مُصابي وبليتي، فإنها شريعة الأهواء يا بني أمي، فالزموها وإلا غادروا خمي.
وشرح لهم بالتفصيل شـريعة الأهواء وألـزمهم بها.
وكان فروج من بين الدجاج يطمح لنيل الزعامة ويُبغض الزعيم، ويتمنى دائما لو أن زعيمه هلك ليحل محله، فكان ينظر إليه وهو على تلك الحال باشمئزاز وتقزز، وقال في سره: إنك أيها الزعيم الأضحوكة وفي غمرة من جنون العظمة، لم تعد تعرف الأعداء المُبغضين المتربصين من الأصدقاء والإخوان الناصحين المُخلصين، وصرت تحسب كل الطير دجاجا مغلوبين، حتى حل بك الخزي المُهين، وليته حل بك لوحدك لكانت المصيبة هَيِّنَة، ولكنك كنت شُؤما على نفسك وقومك، فبسبب هذه الزعامة الزائفة التافهة الممزوجة بالانتفاخ والانتفاش، شمخت بأنفك ونسيت نفسك من تكون، حتى حلت علينا المصائب والويلات والنكبات، وصيَّرتنا أضحوكة النسور والعقبان والبزاة، لقد كان حريًّا بك أيها الزعيم الأضحوكة، أن تخجل من نفسك وتتوارى عن الأنظار، وتترك الأمر لمن هم أجدر منك بالاقتدار، ولكن حب الزعامة والتشبث بها، لا يُبقي في النفس الخجل من النفس، ولو صار أضحوكة في كل الأقطار.
وكان الديك يتوجَّس من هذا الفروج الطموح، ويرتاب من نظراته إليه، وكان يقول في سره: إن نظرات هذا اللئيم نحوي حادة جدا، أشعر كأنها سهام حادة قاتلة في قلبي، نعم إنني أشعر بوخز تلك النظرات المسمومة، من المؤكد أن هذا الوغد التافه يـتـمـنـى هـلاكـي، إنـنـي أشـعـر أنـه يـبـغـضـنـي ويمقتني، ولولا أنني قادر عليه ولا يستطيع إليَّ سبيلا لأزاحني، وربما قتلني ونصب نفسه زعيما للدجاج بدلا مني، ثم إن الدجاجات طالما شكون إليَّ سوء أخلاقه وفساد سريرته، وأنا كنت أؤجل عقابه والبطش به إلى حين، ريثما أتفرغ له وأجد الفرصة المواتية والحجة المناسبة، ولكن يبدو أن الأمور لا تؤاتيني ولا تسير كما أرجو وأشتهي، عليَّ أن أضع حدًّا لهذا الخسيس وأهلكه سواء وجدت الحجة والفرصة أم لم أجد، قبل أن يستفحل أمره ويستشري شره، ولا أُصبحُ قادرا عليه وقتها، سأفعل ذلك بعد أن ينبت لي ريشي، لأُصَيِّرَنَّهُ حكاية لا تُنسى، وحديثا لا ينقطع ذكره، سأجعلها عيدا ومناسبة يحتفل بها الدجاج كل عام ويقولون: ذكرى بطشة الديك الهُمام الزعيم بالفروج النذل التافه الذميم.
وكان الديك طوال المدة التي كان فيها منتوف الـريش لا يغادر الخم، ولا يمارس دوره كزعيم بين الدجاج، وكان كل صباح عندما يهم الدجاج بمغادرة الخم للتقوت يقول لهم: لا تنسوا، من القم إلى الخم، ومن يعصي ويجتاز يأكله الباز.
وكان دجاج خُمِّه يأتيه برزقه في مناقيرها ويُلقونه أمامه، وهو أيضا يأكل ما يسقط على جدران الخم وما يتحرك بالقرب منه من حشرات، أو مما تقذفه الريح وكان للأكل صالحا، فكان يُخرج رقبته فقط دون جسمه ويقتات.
ومر وقت ونبت للديك ريشه، وكان أول شيء فعله بعد أن وطئت رجلاه خارج باب الخم، أن شن هجوما غير مسبوق على ذلك الفروج من دون سابق إنذار، ونقره نقرا شديدا، ولم يُفلته حتى أرداه قتيلا، ثم قال في سره: منذ هذه اللحظة سأهلك كل الفراريج التي تبلغ سِنَّهُ، هذا هو الرأي وهذا هو الصواب، إذا لا يوضع حد للفراريج في الوقت المناسب، فإن الأمر يُصبح في حكم الزائل الذاهب، فتعسا وبُعـدًا وويلٌ لمن فقست عنه بيضته غير أنثى، وشَبّ فَرُّوجًا ذكرا، لأسقينه بنفسي كأس الردى، سُمًّا زُعافا يُفتت الكبد، ولأوردنه حياض الموت اليوم وليس غدا، بل الساعة ولن أ تردَّدَ، فهذه طريقي وعقيدتي وسياستي، التي عنها لن أحيد ما دُمت حيا أبدا.
وعاد الديك إلى طباعه وعاداته القديمة، ينتفخ وينتفش ويُطارد الدجاجات، ونسي الوصية وما عاد يُذَكِّـرُ بها قومه،
وفي يوم من الأيام، كان الباز مارّا من هناك، ورأى الديك على الحال نفسه الذي رآه فيه أول مرة، وكان قد اجتاز قبلها ولم يره، فعلم أنه لم يعد إلى ذلك حتى نبت له الريش، فابتسم ابتسامة المستهزئ الساخر، وقال في سره:
إن الديك لن يترك نفخه ونفشه، مادام عليه ريشه.
بقلم: عبد الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية
كل التفاعلات:
ارق ملاك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كيف أنّجو من غوصّي فيكِ

  كيف أنّجو من غوصّي فيكِ وصوتكِ يجعلني فيهِ غريق كيف أنقذ نفسي من جحيمكِ وهمسكِ يشعلّ في صدري الحريق كيف أجد السبيل الى خلاصي منكِ وكلما اه...