(حلقة ١٦ من مرافىء الأيام/التيه/ ربيع دهام)
اختلجتْ أحاسيسُها لمّا رأته، وترنَّحتْ مع قرعِ طبول النبضِ
أنفاسُها.
صعقَتْها المفاجأة، فراح الزَّفيرُ في صدرها، كما الشَّهيقُ، يركضان
وفي الأخير اصطدما، وسقطا سويـّاً في فوَّهةِ الدَّهشة.
لملمت هي متاع نظراتِها، وراحت تحجُّ إلى أرضِ الحبيب.
وهناك، غطَّت روحُها على غصنِهِ وسهت.
صياحُ الدكتور سوس أعادها إلى الواقع:
"عفيفة. أتعرفين هذا الرجل؟!".
بخيبةِ حلمٍ، وبعد أن أفرج القلبُ عن عقلِها المخطوف، أجابت:
"لا. لا أعرفه".
ترى العينُ ما يريد أن يراه العقلُ. أو في هذه الحالة، القلب.
وعندها، استأنف الدكتور حديثه مع الزائر المسكين بجملته الشَّهيرة:
"السُّوس. وما أدراك ما السُّوس".
تأبَّطت هي حقيبة الخيبة، هاربةً من السُّوس، وإلى مرفأ أفكارها
عادت.
وسرحت بين بحرٍ ورملٍ. سألتْ المركبَ الهائمَ الحالمَ:
"فريد.. وما أدراك أين فريد؟".
وبحث المركبُ عن شاطئ الإجابة ولم يجده.
وجذَّف في بحر الحبِّ ولم يصله. وهل لمن لا يدرك أين المآل
يصل؟
مركبٌ بوصلتُه الحنينُ، وشراعُهُ الأمل، وقدره الضياع،
أيرفع العشرة ويختار العودة إلى الرَّمل ليرتاح، أو يبقى ينتعلُ
الصراع؟
فريد. أين أنتَ يا فريد؟
وأخيراً، يسمع فريد النداء. " يا أبناء الحياة لمن الحياة؟".
ويجيب الحشد: "لنا!".
ويعود الصوت ويزمجر: "ولمن نحيا؟".
" لسوريا".
ووسط الجمع المحتشد في شارع الحمرا، لاحتفال الأول من آذار،
تاريخ مولد مؤسس حركة النهضة والحزب، أنطون سعادة، راح
فريد يفكِّر.
ليتها تعرف ما معنى سوريا.
ليتها تقرأ التاريخ لتدرك كيف أنَّهم بحبرٍ أحمر وآخر أزرقٍ
قسّموا أوصال أمَّتي إلى كيانات متناحرة.
ليتها تعلم أن سوريا التي قصدها الزعيم ما هي إلا جمع لبنان
والشّام والعراق وفلسطين والأردن. وهي حقيقة تاريخيَّة،
ذات قاعدة خصبة، بخصبِ الهلال التي تشكِّله.
ليتها تتيقَّن أن في هذا العالم القاتِل، لا يُمكن للأوطان الصغرى
أن تحمي نفسها إلا بتكتُّلها في اتّحادات كبرى.
أخائفة هي كونها من أقليَّة دينيّة موجودة في الشرق؟
ألسنا نحنُ أبناء عقيدةٍ تؤمِن بفصل الدين عن الدولة.
وبأن الجميع يتساوى في الحقوق والواجبات أمام القانون؟
وهل التعصُّب لمذهبٍ والتمترس فيه هو الردُّ على تعصُبٍ مذهبيٍّ آخر؟
وفي وحول الأسئلة التي طلت وجهه بسحنة الهمِّ،
رآه رفيقه وصديقه علي كشاكش شارداً، فسأله:
" ما بك رفيق فريد؟".
حاول فريد العودة فوراً إلى أجواء الحفل، لمّا سأل:
" متى سيلقي المنفّذ العام خطابه؟".
ضحك علي وقال: " فريد! المنفّذ العام قد اعتلى المنصّة وخطب،
وخطب مِن بعده رئيس الحزب وانتهى الحفل، وها الرفقاء يعودون
إلى منازلهم، وربما خطب المهدي المنتظر، وأنت ها هنا الآن
تسألني متى سيلقي المنفّذ خطابه؟"
"لا لا. بل أنا أعرف"، قال فريد.
"لماذا تسألني إذن إذا كنتَ تعرف؟"، قال علي.
"كنتُ...كنتُ أفكِّر بخطِّة"، أجابه فريد.
ضحك علي، فتقلَّصت إلى حجم العدمِ عيناه، وتكوَّرت خدَّاه
بأكثر مما هي منتفخة. قال: "خطَّة ماذا يا فريد؟ اقتحام الجليل؟".
"ربما"، همس فريد مبتسماً لنكتة الصديق الساخر.
وكيف له أن يقول لعلي أنَّ امرأةً جاءت من خارج كل الأصناف
والأوصاف والتكتّلات، وداست على كل الممنوعات، واقتحمته؟
امرأة قفزت فوق الحواجز الحزبيَّة والدينيّة والعقائديّة،
ودخلت قلبه هكذا من دون طلقة رصاص.
أهي خلجات الحبُّ أقوى من طلقات البنادق؟
ألهذا يقولون أنَّ على السّاسة القادة، المقرّرين مصائر الشُعوب،
أن يفكّروا بعقول باردة من دون قلب؟
أخطيرٌ هكذا هو القلب؟
ألأنّه متمرِّدٌ على قانون الأقوياء ولا يُؤتمن؟
في بلدٍ يتعلِّمُ الجنين في رحم أمِّه أن يخاف من الآخر، كيف يتجرَّأ
هذا الآخر أن يتنكَّر لنداء الأرحامِ، ويخلع رداء الطّاعة؟
وهل في تمرُّده هذا موتٌ له أم حياة؟
هل يموت الذي يناهض مجتمعات التحنيط، أم يحيا؟
"فريد. أتكون خطبتَ ولم تعلمني؟"، هزَّةٌ من علي أسقطت
عن فريد توت أفكاره.
" لماذا تقول هذا؟"، سأله فريد.
" لأنك ربما خطبت وتفكِّر الآن بخطيبتك".
" لا.لا. الحبُّ لم ولا ولن يأخذني أبداً من نداء الوطن"، قال فريد.
"نداء الوطن؟ تقصد الجريدة"، سخر علي.
فضحك فريد وقال: " الوطن أولاً، ثم الحب".
صمت علي لثواني، وفي قلبه المتعب بوجع الفقد، استذكر زوجته
الراحلة وقال:
" الحبُّ.. وما أدراك ما الحبّ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق