كانت بيادرنا
زمان
كنا نحن الشبيبة الصغيرة ننتظر الصيف بفارغ الصبر حتى نتخلص من هموم المدرسة، والوظائف، وعصا المعلم، والاستيقاظ المبكر...
فتبدأ أفراحنا أول أيام العطلة الصيفية، فصل الألعاب والاهتمامات غير القسرية الملزمة، من المهمات ما كان يفرحنا كثيرا مثلا عندما نركب على النورج الذي تجره الدواب لتقوم بتقطع سنابل القمح الجافة تحت اسنان النورج وبعدها يتم تحميل القمح في أكياس، وتحميل السنابل المكسرة ونسميها الأصل، والناعمة نسميها التبن،
قسم من القمح يطحنونه لتصنيع الخبز وغالبا في التنانير الموجودة في أغلب بيوتنا القديمة وقسم يتم سلقه لتصنيع البرغل... مؤونة السنة.
أيضاً كان يفرحنا عندما يطلبون منا أن نقف على سطح بيت من يسلق القمح. أربعة أو خمسة شباب صغار نستقبل الصبايا حاملات القمح المسلوق المحمول في معاجن كبيرة على رؤوسهن، صبية تلوى الأخرى تسلمنا معجنها، ونحن علينا نقله وتفريغه وفرده في المكان المعد لذلك... ونعيد لها معجنها لتذهب وتعيد الكرة...
كان الأهالي ينصبون الجعائل في ساحات القرية ثم يسكبون الماء فيها ويضعون كميات القمح المناسبة (المصول) المنظف في غرابيل خاصة لهذه الغاية، ثم يشعلون النار تحت الجعيلة ويظلون يلقمون النار بالقصل لمدة تزيد عن ثلاثة ساعات حتى ينضج القمح تماما وعندها يصبح اسمه السليقة، يحضر الشباب والصبايا من أهل الحارة يساعدوا في نقل السليقة من الجعيلة إلى سطح بيت السالقين.
كان الشباب والصبايا ينتقلون من بيت إلى بيت، بفرج دون تلكأ لأن أهل القرية اجمالاً يسلقون القمح لتصنيع البرغل وتموينه للشتاء. وهذه الخدمات هي دين مستحق، يتوجب رده. على الجميع واجب مساعدة الجميع، كان يعمل أهالينا بمبدأ الجماعة في خدمة الفرد، والفرد في خدمة الجماعة،
خدمات السليقة كانت مرغوبة عند الشباب والصبايا، لأنه غالبا ما كان يتبع عملية نقل السليقة إلى سطح المنزل، وجبة حلويات من السليقة ذاتها المحلاة بالسكر والجوز، وكذلك يقدم العنب والبطيخ وغيره...
أحيانا بعد الوجبة الخفيفة كان يتم حفل راقص على ايقاع الدربكة وغناء الشباب والصبايا الموجودين، وزغاريد النسوة، وكانت الصبايا يتدللن عن قبول الرقص في البداية، لكن بعدما يتحمسن، عندها تظهر المواهب في الرقص الشرقي، وعندها نرى العجب... قد يتحول الرقص إلى الدبكة الجماعية فتهتز الأرض تحت أقدام الراقصين...والأشطر في الدبكة هو أو هي الذي يمسك في الأول أي على رأس مجموعة الدبيكة...
نحن الصغار كنا نراقب بخبث من يمسك بيد من، ومن يغمز من، وقد نخترع قصص حب جديدة، تنمو في الحارة...
كانت تلك الحفلات فرصة يتهامس ويتغامز فيها الشباب والصبايا، ويتبادلون فيها نظرات الحب، والإعجاب التي قد تؤدي إلى أفراح الخطوبة والزواج...
يبدو إننا نسينا القمح المسلوق على السطح، والذي يتوجب على أهل الدار تحريكه صباحاً مساءً حتى يجف تماما، بعدها يتم تنزيله إلى البيت وإزالة الشوائب العالقة فيه. ليتم جرشه في مطحنة خاصة تسمى الجاروشة التي يحضرونها إلى المنزل خصيصا.
والجاروشة عبارة عن خزانة خشبية يثبت في داخلها حجري رحى، يدار الحجر غالبا العلوي بواسطة دولابين حديد الأول على جانبها الأيمن والآخر على جانبها الأيسر، يقوم رجلان قويان بتدوير حجر الرحى عالباً الحجر العلوي المثبت بقلب الصندوق, ويتم اسقاط القمح الناشف بين الحجرين وعند دوران الحجر يقوم بتكسير المسلوق... يملأ القمح المسلوق الجاف في الصندوق (على شكل هرم مقلوب)... المثبت فوق الجاروشة، وأتذكر بأن للجاروشة صوت مزعج يزعج كل أهل الحارة. لكن لم يكن أحد يشتكي من هذه الضوضاء، لأن الجاروشة ستنتقل إلى أغلب البيوت المتجاورة...
يتحول المسلوق بعد الجرش إلى برغل وهو أنواع، منه الناعم الحجم، ومنه المتوسط، ومنه الخشن ولكل من أنواع البرغل استخدامات تعرفها ربة البيت.
كان يعبأ في خزانة خشبية كبيرة مقسمة عادة إلى ثلاثة أقسام تسمى الكندوج الذي يملأ من الأعلى. وفي أسفل كل قسم من أقسام الكندوج توجد فتحة صغيرة لها غطاء يسحب بالجر إلى أعلى ويتم سحب كمية البرغل المطلوبة، ثم يعاد اغلاق الفتحات إلى حين استخدامها في مرات لاحقة...
هذه الصور الجميلة لاتزال حية في ذاكرتي منذ نصف قرن ربما تلاشت بعض التفاصيل مع تلاشي السليقة، وأصبحنا اليوم نشتري البرغل جاهزاً معبأ في أكياس النايلون الملونة المطبوع عليها كلمات: برغل ممتاز، أو أفضل أنواع البرغل، وهو أبداً ليس كذلك...
عدنا إلى المدارس رأيتهم يحملون القمح، قالوا إلى الجبل حتى يبذروه بانتظار مطر السماء حتى تموت الحبوب وتعطينا سنابل جديدة سألت جدتي: لماذا كل هذا العذاب تقومون فيه في موسم الصيف؟ ابتسمت جدتي وقالت:
إذا لم نتعب في فصل الصيف، لن نأكل في فصل الشتاء...
الكاتب : عبده داود
نيسان 2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق