الخميس، 30 سبتمبر 2021

حديث الجمعة بقلم علي الشافعي

 حديث الجمعة بقلم علي الشافعي

نحن من يصنع الفرعون خاطرة
اعتاد مدير احدى الدوائر أن يدخل مكتبه كل صباح ؛ يجلس على كرسيه الدوار , يطلب فنجان القهوة ثم يرفع يديه الى السماء داعيا : اللهم ارزقني موظفين كقوم فرعون . في هذه الاثناء كان يدخل عليه (عم صالح ) ليقدم له فنجانا من القهوة , فكان يسمع هذا الدعاء فيقول في نفسه : ما اخلص مديرنا ! وما اطيب قلبه ,وما احرصه على العمل , يريد ان يكون بين يديه موظفون اقوياء مخلصون , متفانون في عملهم كقوم فرعون , الذين بنوا الحضارات , وشادوا الاهرامات بدقة واتقان . فهنيئا للدائرة به .
في يوم خطر ببال (عم صالح) ــ يا دام سعدكم ــ ان يسال مديره عن امر هذا الدعاء , واصراره على ترديده كل صباح , فابتسم المدير وقال له : اسمع يا عم صالح , إذا قلت لك : انت لست ساع في هذه الدائرة , بل انت مستشاري , فماذا تقول ؟ قال الساعي : كما تشاء يا سيادة المدير , انا مستشارك الامين . قال المدير : واذا قلت لك انه في ماليزيا تبيض العجول ويلد الدجاج فماذا تقول ؟ قال الساعي : انت ادرى يا سيدي وما عهدنا عليك الكذب . قال المدير : واذا قلت لك : إن الجمل يطير , قال الساعي على الفور : ان الله على كل شيء قدير . فرفع المدير يديه الى السماء وقال : الحمد لله الذي استجاب دعائي . انت الآن من قوم فرعون الذين دعوت الله ان يرزقني بهم .
اظنكم خمنتم ــ يا دام عزكم ــ المغزى من هذه القصة , نعم ايها السادة الافاضل , نحن من يصنع الفرعون ,انا لا اقصد هنا الفرعون الحاكم فقط , وانما لكل دائرة ومؤسسة فرعونها , الذي يذلل رقاب مرؤوسيه ويركب اكتافهم ليصبح السيد المطاع . كأنهم دواب في حظيرة ابيه يتصرف بها كيف يشاء ؛ عبودية وقهر واذلال و تركيع وتجويع , الى ان يقول لهم : انا انا ولا انا الا انا , كيف نصنع الفرعون؟ سأقول لكم وامري الى الله بعد ان تصلوا على خير الانام :
جبل الانسان على حب الذات والشهرة , وفطر على التوق للزعامة والتفرد والكبر والتجبر , خاصة في بلاد بني عرب ,يحب الاطراء والتملق والتزلف , والادب العربي يزخر بمواقف فيها الوان من التجبر والتفرد كما قال جساس بن مرة , موقد حرب البسوس الشهيرة : ( نحن قوم نحب التجبر , ولا نطيق ان يتجبر علينا احد ) , والباحث في الادب او التاريخ منذ عهد الجاهلية حتى اليوم يجده وصفا للزعماء والمشايخ , وما يدور في قصورهم ومضافاتهم , وكأن سمو الاخلاق ليست موجودة الا فيهم , ورثوها كابرا عن كابر , فهم اهل الحكمة والعزيمة والشهامة والنخوة والراي الصائب والفكر الثاقب والعقل المستنير , بهم تعقد الرايات , وعليهم يعتمد الخلق , واليهم تشد الرحال ويرجع الامر , ولعل قصائد المديح على كثرتها في الادب العربي خير شاهد , فمنذ الجاهلية الاولي لقي المادحون اذانا صاغية , وطارت قصائدهم في الافاق , وملئت افواههم وجيوبه بالدنانير, وعاشوا عيشة الامراء والوزراء , , فكثر المتكسّبون بالشعر , وتفاخر الامراء بالأشعار التي قيلت فيهم , وكتبت بماء الذهب وخلدت على مر العصور , ففي المعلقات مثلا تجد جزءا خاصا بالمديح او الفخر بالقبيلة وزعمائها , نطور الامر بعد ذلك خاصة في العصر العباسي وما بعدة لدرجة التأليه والتبجيل اشعار والمبالغة المقيتة , كقول بابن هانئ الاندلسي في مدح المعز لدين الله :
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
و كأنّما أنتَ النبيُّ محمّــــــدٌ وكأنّمــا أنصاركَ الانصارُ
وقول المتنبي في مدح كافور الذي ما فتئ وان هجاه عندما لم ينل مراده :
فتى ما سرينا من ظهور جدودنا الى عصره الا نرجي التلاقيا
في عصرنا هذا حدث ولا حرج , فالكل الا من رحم ربي يسبح بحمد المسؤول , شاكرا آلاءه , مباركا كل خطوة يخطوها على ارض المؤسسة التي يديرها , ففي كل دائرة تجد جوقة من المطبلين المدّاحين المبهورين بأسلوب سعادته في ادارته للمؤسسة , متبرعين بالتجسس على المعارضين او المنتقدين لسياسته , فيصدّق الرجل نفسه ويقتنع بانه الرجل الفذ الملهم الذي ما انجبت مثله ولّادة ,وان الكرسي الذي يشغله ضيق على سعادته , وانه يستحق الافضل , فيتكبر ويتجبر ويطغى ويبغي , ويصدر الاوامر والنواهي كيفما شاء , فهو واثق انه سيجد من يزينها للموظفين .
نأخذ أي دائرة مهما كانت صغيرة تجد حول مديرها جوقة من المطبلين يزينون لسعادته كل عمل يقوم به مهما كان ساذجا , فيهولون الامر ويضخمونه , ويظهرون انبهارهم بحديثه الذي قد يكون فجا وغير مترابط الجمل والافكار , وينقلبون على ظهورهم ضحكا من نكتة لو قالها غيره لسلقوه بالسنة حِداد , فيظن المدير انه فعلا القادر على كل شيء , وان هذه الكرسي يضيق ويعجز عن حمله , فتكون النتيجة فرعون جديد في كل دائرة ومؤسسة .
قرر احد وزراء البلديات يوما ان يزور احد الاحياء الشعبية في مدينتنا العامرة , ليطلع على سير العمر فيها .
علمت البلدية بالأمر فاستنفرت اجهزتها بكامل طاقاتها , فمنذ الصباح الباكر قامت الجرافات بتمهيد( ما كان يسمى شارعا) , الواصل بين الشارع الرئيس ومكان الاحتفال , وما بين طرفة عين وانتباهتها احضرت القلابات الخلطة الاسفلتية الجاهزة , وفي غضون ساعتين تم رصف الشارع بطول حوالي ثلاث كيلومترات . بعد ذلك احضرت القلابات ترابا احمر جميلا طالما افتقدناه في هذا الحي , فقام العمال بفرده على جانبي الشارع , ثم قاموا بإحضار بعض اشجار الزينة والاشجار الحرجية وزرعوها في التربة الحمراء بشكل هندسي جميل . ليوهموه ان هذا الجمال للمدينة بفضل توجيهات معاليه وحنكنه في تسليم القوس باريها , وحكمته في وزن الامور , وضع الشخص المناسب في المكان المناسب .
نزل الناس الى الشارع الجديد مهلين ومرحبين , ليس بقدوم المسؤول , وانما بمنظر الشارع الذي يسر القلب ويبهج العيون , وعقد الشباب حلقات الدبكة على الشارع الجديد وهم يغنون:
على دلعونا وعلى دلعونــــــــــا ومن هالمناظر لا تحرمونا
مرت ما مرت مرت ما مــــــرت مرواد الكحل بالعين جرت
داست عالارض والارض اخضرت موضع قدمها نبت حنّونا
ترى لو مر المسؤول متخفيا من ذلك الشّارع بعد اسبوع فماذا كان سيرى؟طابت اوقاتكم
قد تكون صورة لـ ‏شخص أو أكثر‏
Tgred Ahmad وشخص آخر
تعليق واحد
أعجبني
تعليق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

(لا تزال عالقة) بقلم عواطف فاضل الطائي

(لا تزال عالقة) حلقة مفرغة من الخيارت تراوغها بيقينها ان القدر سينظم لهما لقاء وكأن الحياة قد توقفت في تلك اللحظة.. لا تعرف ماذا تفعل هل حقا...