مقتطف من القصة الطويلة المسجوعة: حقد وأنانية.
................................................................................... الجرذ(مخاطبا الحمار): جميعنا أدلى بما يعتقده الصواب، ولقي عليه الرد والجواب، إلا أنت يا حكيم الغاب، لم نسمع لك رأيا كبقية الأصحاب، فماذا في جعبتك يا مُذَلِّل الصعاب، ويا أوَّل من نهق في هذه الوديان والشعاب.
الحمار: إن انشغالي الآن في غير الذي تهتمون، فأنا الآن أفكر بأمر هام غير الذي أنتم فيه تتجادلون، وتتحاورون وتختصمون، وأمَّا عن رأيي فغير مهم للذي تعلمون، فأنتم أبدا لا تتفقون، وحتى لو أردتم فإنكم لا تستطيعون، فأمر الاتفاق والوحدة الذي تنشدون، صار مستحيلا رابعا إن كنتم تعقلون، وهيهات أن تسود أمة حكامها للعدو عملاء مجندون، وهم كلابها الذين بهم على أنفسهم وشعوبهم وبلدانهم يأمنون، ومادام الفاهمون عندنا يدندنون، ويُفتون بوجوب كشف السوءة لمن يتغلبون، ويأخذون الأمور غصبا ويتسلطون، وحتى لو أباحوا الحرمات وكل الموبقات يأتون، وأهلكوا الحرث والنسل ودماء الأبرياء يُريقون، فلا أمل ولا هم يحزنون، وأمَّا والحال هذه كما تعرفون، فإننا إلى الهاوية جميعا سائرون، وحتما وأكيدا فيها واقعون هالكون.
الديك: ولو يا صديقنا، فما أنت إلاَّ واحد منَّا، ورأيك لا بُدّ أن تُسمعنا، فهو رأي مثله مثل الذي قلنا، وإن لم يعجبنا، رفضناه كما بغيره فعلنا، عزمنا عليك فلا فرار لك منَّا، هيا قل ولا تخذلنا.
الحمار: حسن إذن مادمتم تُصرون، فاسمعوا اقتراحي الذي إليه تتشوَّفون، وهو أن نذهب إلى حقل كثير العشب والغذاء، والذي أكثرُ من غيره أكل وشرب الماء، واستمر آكلا شاربا دون عناء، ودون توقف حتى المساء، فاز على بقية الرفقاء.
القط(ضاحكا): إنه حقا لشيء عجاب، إذ حتى آراؤك واقتراحاتك لا يخلو منها الأكل والشراب!
الحمار(غاضبا): وما به الأكل والشراب؟ هل قلت شيئا يُخالف الصواب؟ أو أتيت بما منه يُستحى ويُعاب؟ أليست الحياة من دونهما جحيم وعذاب، وأنهما في حال الندرة والغياب، فإن الحياة إلى زوال وذهاب، ومن قال أنها تستقر وتستقيم وتستمر من دونهما فهو دعيٌّ أشر كذاب، غير واع بفقه الأسباب، فهما للبقاء والاستمرار من آكد حِكَمِ الحكيم الوهاب.
الجرذ: هو رأي سمعناه، وكغيره ألغيناه وما أقررناه.
الديك: صديقنا الحمار المحترم، لا أراك الله الذي تكره وتغتم، أخبرتنا قبل إبداء رأيك المنصرم، أنك تُفكر في أمر جلل مهم، فما هذا الأمر الذي جعلك تنشغل به وتهتم؟ صارحنا فإنك لن تندم، فالصريح مشكور مُكرَّم، فإن كان في الأمر ما نأمن به ونسلم، وفيه الصلاح لنا والرشد والمغنم، فأنعم به وأكرم، لأنه أحسن ما تسوق من خير وتُقدم.
الحمار(مترددا): إنه موضوع شخصي، ووحدي يخصني، ويتعلق فقط بي.
ولكنهم ظلوا به مترجين، طالبين منه إخبارهم سره الدفين، ليعلموا حقيقة الأمر على وجه اليقين، والحمار يتمنع ويحاول إقناعهم بأن الأمر هيِّنٌ يسير، ولا يستدعي هذا الاهتمام الكبير، ولكنهم أبوا عليه إلاَّ فكاك الأسير، وفك قيوده وأغلاله لينعم بالحرية والتحرير، ولم يُحلُّوه حتى أخبرهم سره الخطير، وأذاعه بينهم وأفشاه بصوت جهير: في الحقيقة أيها السادة، وكما جرى به العرف والعادة، فإنه لاستمرار النسل وحفظه، فإنه لا بد من اتِّباع سنة الله في خلقه، فما من يوم يمر ويذهب، إلاَّ والموت نحونا أسرع وأقرب، ولقد خشيت الموت أن يتلقفني، ولا يكون لي عقب ونسل يخلفني ويرثني، إن فكرة الزواج تراودني، وتداعب مخيلتي وتُدغدغني، ولكن الوضع الذي نحن فيه يُقعدني ويتعبني، ويصيبني بالكآبة والخيبة ويُحيِّرُني، ففي رأسي أتان حسناء، بهيَّة الطلعة غرَّاء، تُحاكي بجمالها قمر السماء، أسيلة الخدين بيضاء، زرقاء العينين نجلاء، خصلات شعر ذيلها صفراء، فروة ناصية رأسها حمراء، لها حس فكاهة يُطربك كأنه أجمل الغناء، وخفة ظلها كنسيم عليل الهواء، في الهاجرة الصيفية الحرَّاء، ومرح روحها يضخ فيك السعادة والهناء، تُنسيك كل ما لاقيت من مآس وبلاء، وأهوال وعناء، لا تحس وأنت بجانبها بحر الصيف ولا بقر الشتاء، شعر باقي جسدها طويل مزيج بين الاصفرار والاحمرار، إذا نهقت وجدت لصوتها جلجلة ودويا صاعقا كدوي الرعد الهدَّار، أو كأنه زلزال أتى على الأرض بالخراب والدمار، وإذا تمرغت على التراب أثارت الغبار، كأنه عاصفة هوجاء أو إعصار، وإذا ركضت فلوقع حوافرها صلصلة كصلصلة سلاسل زبانية النار، وهم يجرُّونها ليغلُّوا بها الفجار والكفار، وفي سرعة عدوها كالشهاب الواقع من الفلك الدَّوَّار، أو كالبرق الوامض الذي يأخذ بالأبصار، لا يلحقها نجباء الخيل الكرَّار، أراها دائما قربي، تلعق عنقي، وتحك ظهري، وتُؤنس وحدتي، وتكون أمَّ أولادي، فلذة أكبادي، وقرة عيني وسكينة فؤادي، نُشكل أسرة سعيدة في هذا الوادي، ويكثر نسلي بلا تعداد، وينتشر في السواد، ويعم كل الجبال والوديان والبوادي، يملؤون الدنيا بالنهيق والركض وكل ربوع البلاد، لهم أصوات شداد، يُخيفون ويُرهبون ويُرعبون بها الأعادي والحساد، وينشرون تراث الآباء والأجداد، قوم البطولات والأمجاد، وفخر كل حمار ذو أنفة وعزة وصلابة وجلاد، هذا هو العبء الذي دائما يثقل عليَّ، ويقض مضجعي ويُطير النعاس من عينيَّ، والمصيبة أنني لم أر في حياتي أتانا بمثل هذه المواصفات، بل وإن رزيَّة الرزيات، أنه لا توجد أتان واحدة في هذه البريات، فكيف لي أن أنعم وأهنأ بالمسرات، وأنا في أسوء الحالات، وحياتي كلها انتكاسات، وخيبات في إثرها خيبات، تتلوها خيبات، لا أراكم الله مثل هذه المصائب المخزيات المهلكات.
كان الحمار يتكلم وأصدقاؤه منصتين، يكتمون ضحكهم ويحاولون السيطرة على أنفسهم جاهدين، ولكن ما إن أتم الحمار حديثه الحزين، على حاضريه السامعين، حتى أطلقوا العنان لضحكهم مقهقهين، يتلوون على الأرض من الضحك الشديد طربين، مما أغضب الحمار المسكين، وأخرج مارد غضبه من قمقمه في الحين، وأطلق له عنان الجهل والغطرسة والغرور والشرور، فامتنعوا منه في الحجارة والصخور، وهو يشتمهم ويتوعدهم بالويل والثبور، وعظائم الأمور: الويل لكم مني، يا أبناء الجن، تترجوني لتعرفوا ما عندي، فلما أخبركم سري، وأشكو لكم بثي وحزني، تضحكون وتسخرون مني، فإليكم عني، فبعد اليوم لن أراكم ولن تروني، فلست منكم ولستم مني، ولا أعرفكم ولا تعرفوني، سأفارقكم وتُفارقوني، ولن أشاطركم حياتي ولن تُشاطروني، فلا خير فيكم مادمتم لا تُؤازروني، ولا تأخذوا بيدي ولا تساعدوني، ولا تُناصحوني ولا تعذروني، فمن كان له رفقة الخزي والشنآن، خاب وتعس ومُنِيَ بالتعاسة والخسران، وأصيب بالخيبة والبوار والخذلان، فأنتم لا تصلحون إلا أن تكونوا رفقة الشيطان.
الديك: ستعاني وحدك يا صديقنا أشد العناء، وهذه الغابة مملوءة بالأعداء، وإنما يهلك المنفرد الذي لا رفقة له ولا أصدقاء، فاعقل ولا تكن من الأغبياء والجهلاء.
الجرذ: نحن يا صديقنا يجمعنا نفس المصير، وتلك حكمة المقادير، فاستفت عقلك يا صاحب الرأس الكبير، ولا تستسلم لأفكار الشيطان الشرير، فإنه عدو خطير، لا يدع أتباعه وأولياءه حتى يُهينهم ويوبقهم ويُذيقهم كل مر مرير.
القط: لا تجعل الغضب اللعين، يُعمي بصيرتك ويذهب بعقلك الحصيف الرصين، فالذي أنت مُقدِمٌ عليه خطأ وضلال مبين، إنما الصواب والحكمة في أن نبقى مجتمعين، ومادام أمر الحُكم يجعلنا دائما متوترين، وغير متفاهمين ولا متفقين، فلندع هذا الأمر إلى حين، ريثما نهتدي ونكون مبصرين، ونتفق ونكون جميعا راضين، لا ترحل وابق معنا، ولنبن بيتا يتسع لجميعنا، فهذا الذي يلزمنا، وهو الأهم لنا.
الحمار: من لا يعرفكم ويراكم لغيركم ناصحين، يحسبكم ملائكة منزهين مطهرين، ولكن هيهات يا سفلة يا أوغاد يا مجرمين، فلقد خبرتكم سنين، فلا ينطلي نفاقكم إلا على أمثالكم من التافهين، وأما مسألة البيت اللعين، الذي تدندنون به في كل وقت وحين، فابنوه واسكنوه لوحدكم إن كنتم فاعلين، فأنا تبينت طريقي الجلي الواضح المبين، وعزمت عزم المريدين الصارمين، أن لا أشغل نفسي بعد اليوم بالخائبين والفاشلين، سأذهب للرعي مع الظباء والغزال، فلقد أصابني الضعف والهزال، لأنني كنت مشوش البال، وفي غير نفعي كنت في انشغال، فكفوا عن الاستجداء والسؤال، وانظروا لأنفسكم ما ينفعكم في الحاضر والمآل، فما تُؤملونه مني أصبح وَهْمًا بعيد المنال، وسأبحث عن أتان أحلامي، التي أراها دائما في أحلام يقظتي ومنامي، ولن أكف ولن أيأس حتى أظفر ببغيتي ومُنيتي، أو أوسَّد في التراب دفينا بخيبتي، ها قد سمعتم مقالتي، وهو آخر ما في جعبتي، لكم أنا سعيد، لأنني سأفارق هؤلاء الأنجاس المناكيد، فليس منهم أحد رشيد، وكلهم على الحق خصم عنيد، جبار شيطان مريد، وما من أحد منهم إلا خسيس سافل حقير بليد، وما زادني قربهم ولا صحبتهم إلا الهم والغم والتعب الشديد.
ثم إنه استدبرهم وهو يرعد ويبرق، وولاَّهم قفاه مستقبلا جهة المشرق، متوعدا بالقتل والسحل والسحق، بلا رحمة ولا شفقة ولا رفق، كل من به يلحق، وقلبه من الغيظ يحترق، وانطلق مادًّا رقبته راكضا ينهق، ووقع حوافره في الحصى يطقطق، وللتراب يُثير ويفرق، وخلَّفهم مع الأسف والأسى والقلق، ولم يستطع أحد منهم أن يُعلق، ولا أيَّ موضوع يطرق، ولا بنصف كلمة ينطق، ولا حتى أن ينبس ببنت شفة بالمطلق.
..................................................................................
بقلم: عبد الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق