قصة قصيرة: أوهام خنشور وبردوع.
غار الخنزير والجحش من الأسد، وحسداه على مكانته ورفعته وعُلُوِّ قدره بين الحيوانات، فذهبا إليه في ثياب الناصحين، وبعد تقديم التحية والسلام وعبارات الوُدِّ والإخاء الزائفة، قال له الخنزير: لقد رزقك الله تعالى يا سيدي هيبة ووقارا، وهِمَّةً ومنزلة مرمُوقة، وعُلُوَّ قدر لم يحظ بمثلها إلا قِلَّة، وهي موهبة وامتياز لمن رُزِقَهَا، وأنت تعلم يا صاحب الرِّفعة والمقام الأجَلِّ، أن كثيرا من الخلق يَغَارُون من أصحاب النِّعم والمواهب المتميزة ويحسدونهم، فَلِمَ يا سيدي لا تُخفي هذه المواهب والنِّعم، التي حباك الله بها وأنعم بها عليك، حتى لا تُصيبك عيون الحسد الشريرة الآثمة، بأن تتواضع وتجلس معنا وتُضاحكنا، وتُخفي موهبتك وعبقريتك في الزئير، وهذا صديقي الجحش له نفس الرأي ويُؤيِّدُنِي فيما أقول.
ونطق الجحش فقال: إي والله يا سيدي، أنا من رأي الخنزير، وكل أُمَّة الحمير تُوافق على رأي الخنزير وتراه صوابا ومنطقا، فجميع الحيوانات تخشى الزئير وترتعب منه أشد الرعب، ولذلك هم يبتعدون عنك ويتجنبونك، فَلِمَ يا سيدي العظيم لا تكف عن الزئير كما أشار عليك صديقي الخنزير، وعِوَضًا عن ذلك تصدحُ بالقُباع حتى تألفك الخنازير وتُحبك، وتنهق مثلنا نحن أُمَّة الحمير، فلنا أصوات في الغناء يا سيدي يشهد لها القاصي والدَّاني بالأناقة والفخامة والرُّقي والتهذيب، وأن تنبح مثل الكلاب أيضا فهو فَخْرٌ لك ورفعة، وسيحبك هؤلاء جميعا ويأنسُون بقربك، ويزول خوفهم ورعبهم منك، اُنظر إلينا نحن كيف أننا منفتحون على غيرنا، وأَعَزُّ أصحابنا على قلوبنا الخنازير والكلاب، ولا نجد في مثل هذا وأشباهه أيَّة غضاضة، ثم... .
فقاطعه الأسد بنبرة حادَّة: لا تجدون غضاضة في صداقة هؤلاء لأنكم حمير، اِسمعني جيدا يا بردوع حتى يزول عنك الوهم والغباء، اِنصح بمثل هذا الكلام الذين على شاكلتك من قومك الحُثالة المُبَردَعين، ومن تُصادقهم وتُصافيهم من حُثالات الأجناس الأخرى، أما أنا فإنني أعرف حقيقة نفسي وطبعي، وطريقة تفكيري وخلفيتي جيدا، وأعرف أين تكمن مصلحتي، وما الذي يجب عليَّ فعله، عندما تعود إلى قومك الحُثالة لا تفكر بالمجيء عندي مرة أخرى، وأبلغهم على لساني أنني لا أحب أن يأتيني أيُّ غبي منهم أبدا.
ثم مخاطبا الخنزير: وأما أنت يا خنشور فإنني أُدرِكُ مشكلتك المُستعصية، وإذا عُرف السبب بَطَلَ العجب، أنا أعرف أن رؤيتي تُشعرك بالخزي والمهانة، وتُسبب لك كآبة في ضميرك الآسن، وحُرقة في قلبك الحاسد الحاقد الفاسد، لأننا لسنا مُتشابهين أخلاقا ولا طبيعة، اِستمتع بما أنت فيه فإنني أنا أيضا أستمتع، وإن كان لك كيد فكدني ولا تُنظِرنِي، وحتى تزول عنك وساوس الشيطان نهائيًّا، فاعلم جيدا أن رأيك فِيَّ لا يُهِمُّنِي، وهو عندي لا يُقَدِّمُ ولا يُؤخِّرُ، فأنا أعْرَفُ بنفسي من غيري، وعندما تُريد مٌقارنة نفسك بي، وتجعل من نفسك نظيرا وندًّا للأسد ــ وهذا لعمري من السُّوء والنكد، والذي يجب أن يتوقَّف فورا وإلى الأبد ــ اِذهب بداية وانظُر إلى صورة وجهك في الماء، لتُدرك وتعلم حقيقة نفسك من أنت مُقارنة بي؟ تَمْدَحُون الغثَّ الضئيل وتُثنون عليه، وتَذُمُّون الجليل القدير وتقدحون فيه وتُشَنِّعُون عليه، ولكن إن لم يفعل الخنزير ذلك فمن تُراهُ يُؤدِّي هذا الدور الذي لا يليق إلا بكم وبأشباهكم في أخلاقكم وطبائعكم؟ تُمارسون الرَّداءة وتُكَرِّسُونها، ثم بعد ذلك تتذمرون منها وتَذُمُّونَهَا وتُنَدّدُون بها، الرَّدَاءة لا تُنتجُ إلا الرَّداءة، وللرَّداءة أهلها وأصحابها...
إنكم يا خنزير لا تُحبُّون الأُسُودَ ولا تُطيقون رُؤيتهم ولا مُجاوَرَتَهُم، فتاريخ الأُسُود وتاريخكم لَيْسَا سواءً، فهل عليَّ أن أروي لكم تاريخكم؟ الكُلُّ يعرف تاريخكم المُخزي والمُشين، والكُلُّ كذلك يعرفُ تاريخ الأُسُود، فهل تَرَاجَعَ الأُسُودُ يومًا؟ أو خانوا؟ أو باعوا؟...، فأربِع على نفسك ولا تُقارن نفسك بنا...، ثم إنه ليس من الحكمة أن يُناقش مِثْلِي مِثْلُكُمَا، فَغُضَّا الطَّرْفَ إنَّكُمَا من خنزير وحمير، فلا الأُسُودَ بلغتما ولا الفُهُودَ...، احذرا في المَرَّة القادمة، فإنه ليس الواحد دائما بمزاج ثابت، ومن مصلحتكما عدم لقائي ولا رؤيتي، بل ولا حتى لقائي أو رؤيتي في أحلام نومكما.
ثم إن الأسد زأر عليهما بقوة، فتراجعا إلى الوراء، وسقطا على الأرض من شدة الرُّعب، ثم نهضا وأطلقا سيقانهما للريح، مذعورين مرعوبين، وبعد أن غادرا، قال الأسد في سِرِّهِ: إنَّ مُصيبة المصائب أن تكون مُحَاطًا بالحمقى والمُغفلين، وبالحُسَّاد الحاقدين.
بقلم: عبد الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق