السبت، 2 ديسمبر 2023

 (الحلقة 15 من مرافىء الأيام / الفقد / ربيع دهام)

ومرَّ يومٌ أو يومانِ أو أكثر. وهل يُحصي الوقتَ من قلبه تَبَعْثرْ؟
ومرَّ يومٌ أو يومان أو أكثر، ومركب الأحلامِ على الرمالِ تكسَّرْ.
لا. لم تعد الشمسُ تشرق كما كانت. ولا المدينة تعجُّ بالحياة
كما اعتادتْ أن تكون.
وغاب عن ظلام المساءِ قمرُهُ. والتهم الغيمُ أكبادَ النجوم.
وهي ذي عفيفة، تجلس في مكتبها مكسورةَ الخاطر والجناحين.
كأنَّما الحزنُ قد أمسكها عن جذعِ خاصرتها وشطرها لنصفين.
نصفٌ هنا، في عيادة الدكتور حيث تعمل، ونصفٌ آخر، هناك.
في ذاك البيتِ العتيقِ. والفناء الذي يتوسّطه درج.
والدرج المفضي إلى عتبة. والعتبة الفاصلة بين نبضٍ ومماتْ.
كالشطآن هي. كالمرافئ.
خطوةٌ واحدة إلى الأمام ويلحقُ جسدُها بروحِها التي في الداخل.
خطوةٌ واحدة ويزغردُ العمرُ ابتهاجاً، ويكشِّرُ عن أنيابه الأملُ.
ويحلو الليلُ، ويحلو معه السَّهرُ.
وعلى مركب الأفكار، غاصت هي في بحرِ أمنياتها وحلمت.
تارةً ترى نفسها في بيت حبيبِها، هاجدةً على صدره، وفي أحضانه.
وتارةً، تُختمُ وبالشَّمع الأحمر آمالُها، لمّا يختفي حبيبها مع الريح ويمضي.
وتنتشل نفسها من مستنقعِ الفقدِ وتعود إلى واقعها،
فيتراءى لها أثاث الغرفةِ. السقفُ الجبس بورد الأبيض المزخرف.
والرخام الذي بلون السقف. والإنارة الأنيقة. وباب أكورديون جلد بني.
ذاك الباب الذي، منذ أن دخل فريد عليها ذاك النهار، محتجَّاً بشكر الدكتور، حتى صار وجهه توأمه.
فلا ترى الباب إلا وترى معه إطلاله فريد عليها.
وتشيح بنظرها كي تنساه، وكيف تُرى تنساه؟
وتعلقُ نظراتها الهاربة بشريط الهيكل العظمي الشائك.
هل بإمكانها أن تنسى يوم اصطدام فريد بالمجسّد، لمّا دهس
ذيل القطّة، وقفز؟
بسرعةٍ، ركبَّت لنظارتها أجنحةً وطارت بها وغطَّت على المكتب
أمامها.
على الخشب المضغوط المطلي بالأبيض، وعلى حقيبتها الزرقاء.
وتصرخ رسالته من داخل الحقيبة: "اقرأيني يا حبيبة".
وتستلُّ الرسالة، تفتحها وتقرأ، وفي عقرِ الكلمات تغرق:
"تعالي امرأتي لقلبكِ خُذيني
أركنُ العمرَ على خدِّكِ وأسهرْ
أسدٌ في الدنيا لو أنتِ عريني
قُحْلُ الصَّحاري في حضنكِ أخضرْ"
غريبٌ. كيف بقصيدة واحدة أن ترفعك تارةً إلى سابع سماءٍ،
وتارةً تُسقطك في عاشرِ حضيضٍ.
غريب كيف بالكلمات التي أفرحتك بالأمسِ، تُبكي فؤادَك اليوم.
ويبكي نبضها: "أينك يا فريد؟
لَمَ إليّ لا تأتي؟ لِمَ أنتَ عنيد؟".
وتركنُ رأسها على المكتب، علَّ الألمُ، بفعل الجاذبيّة،
يهرُّ.
وتسأل نفسها:
"أتستحق كل عقائد الدنيا أن نخسر لأجلها حبيباً؟".
وقبل أن تعثر لها عن جوابٍ، تسمع صوت الدكتور يناديها:
"عفيفة! بسرعة تعالي وادخُلي".
وتنتصب هي.
ويكمل صوت الدكتور: "ألا تريدين سماع محاضرتي عن السوس؟!".
وتتسمَّر هي في مكانها، كأنّما الجملة هزَّت أركانها.
وتردّد لدقيقة. لكنها تعود وتدخل.
لعلَّ محاضرته تُنسيها، ولو للحظةٍ، حبيبها فريد.
وما إن يطلُّ وجه الدكتور، وتلتفت وترمق كرسي المريض،
حتى تراه يجلسُ، بكل سحره، على بعدِ غمرةٍ، أمامها هناك!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كيف أنّجو من غوصّي فيكِ

  كيف أنّجو من غوصّي فيكِ وصوتكِ يجعلني فيهِ غريق كيف أنقذ نفسي من جحيمكِ وهمسكِ يشعلّ في صدري الحريق كيف أجد السبيل الى خلاصي منكِ وكلما اه...