امي والسمك الغزّاوي
في العام السادس عشر للحزن، أصبح كل شيء يُؤرخ بعمر فقدها وهي في عمر العطاء . تمزقت كل هذه الصفحات من عمر الأيام وكتاب الوجع ، ولكني حقا لم اتجاوز الألم. ولكن في هذه الأيام من تاريخ المقتلة التي تطحن غزة كل يوم ، أجدني أرى في غزة مدرسة الصبر وجامعة التجارب الإنسانية التي تصقل قلبك وتصك عقلك بعملة الاحتساب. تخجل من ان تبكي امك في حضرة الأطفال اليتامى والنساء الثكالى. تخجل من جوى فؤادك أمام من عرفت امها من شعرها أو من رأى امه جثة هامدة وظلّ يرنو إليها أياما قبل أن تُنتَشل أمامه وتذهب بعيدا وللأبد وتترك له جرحا غائرا لا يندمل. صارت ملامح امي من تضاريس غزة، تلك المدينة المجهولة ذات البريق الغامض التي اول ما سمعت اسمها كنت صغيرة جدا بعمر الرابعة وأسكن في عمان . كانت امي دوما تقلي لنا سمكا صغير كانت تسميه( سمك غزاوي). وفي أحد المرات أكلنا السمك الغزاوي وذهبت امي لتغسل يديها. فما كان مني إلا أن حشوت فم أخي الصغير الذي كان يبلغ اربعين يوما بالسمك وذهبت لأمي التي سألتني فوراً عن حال صغيرها . فقلت لها : اطعمته سمكا غزاويا حتى يكبر ويصبح رجلاً . لم أدري حينها مغزى كلماتي ولا ظلال فحواها . ولكن قلب امي انخلع من مكانه فألقت بالصالون النابلسي من يدها وركضت نحو صغيرها الذي أغلق فمه على السمك وبدأ شاخصا . فتحتْ فمه وتناولتْ كل ما حشوتُ في فمه من سمك وحسك بكل مهارة ولم يحصل له أي شيء . لم افهم حينها حجم ما فعلت ولكن امي قالت حتى سمكك يا غزة مبارك الحمد الله أن الولد لم يمت. مرت الايام وتزوجت في الضفة الغربية ولم يسبق لي أن رأيت غزة حتى هذه اللحظة ، ولكن كل ما اسمعه عنها يقول أنها ان غرة الوطن وزاد الصبر والترياق الذي يُذهِب اليأس. كبُر أخي وصار رجلاً له من محاسن السمك الغزاوي نصيب.
#إيمان_مرشد _حماد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق