الخميس، 30 نوفمبر 2023

قصة قصيرة: الضَّيَاع. بقلم: عبد الكريم علمي الجمهورية الجزائرية

 قصة قصيرة: الضَّيَاع.

ركب الحافلة المتوجهة إلى مدينته عائدا إليها من مسيرة ضياع طويلة، وفي طريق عودته والحافلة تطوي الأرض طيّا، عاد بذاكرته إلى الوراء، يوم كان تلميذا مُجتهدا والأول في ثانويته ويتأهب لاجتياز البكالوريا، وهو يرسم في نفسه آمالا طويلة وعريضة للالتحاق بالجامعة، ثم التخرج والحصول على المؤهل العلمي، ثم التوظيف والمسكن والسيارة والزواج والأولاد...
كان الذَّكَرَ الوحيد في الأبناء رفقة خمس بنات، ووالداه يُمَنّيان النفس ويأملان بنجاحه في البكالوريا، ودخوله الجامعة ونيل الشهادة ثم التوظيف، ليحمل عن أبيه شيئا من هَمّ الأسرة، كان مضرب الأمثال في الأخلاق والاجتهاد في الدراسة، ولكن رفقة السوء غاضهم وحزَّ في أنفسهم أن يتفوَّق زميلهم وهم في ذيل الركب يتخبطون، وفي وحل الجهل والسفالة والتفاهة يخبطون خبط عشواء، ولا يتبيَّنُون الجادَّة ولا يهتدون إلى سواء السبيل، فكان تأثيرهم عليه سلبيا وسيئا إلى حد قاتل.
زيَّنوا له تدخين المخدرات، وأقنعوه أن الرجل لا يكون رجلا إلا إذا ذاقها واستكنه طعمها ولو لمرة واحدة، جَـرَّبَ لأول مرة من باب الفضول، وهو ينوي أن تكون الأولى والأخيرة، ولكنه شيئا فشيئا وجد نفسه يغرق في وحلها، وهو في كل مرة يعزم أن تكون الأخيرة، وبعد مدة أصبح مُدمنا عليها ولا يستطيع الاستغناء عنها، وحينها تخلى رفقاء السوء عن توفيرها له كما كانوا يفعلون في السابق، فكان يسرق من جيب أبيه لتوفير ثمنها.
والده فقير معدم عائل يعمل حَـمَّالًا في السُّوق، وما يتقاضاه من أجر لا يسد خللا أو يجبر كسرا، وفوق هذا فهو يقتطع جُزْءًا مما يتقاضاه ليوفر به مبلغا يُضيفه إلى ثمن ذهب زوجته عندما يبيعه، لإجراء عملية جراحية على القلب لها، فالوالدة أنهكها المرض ونال منها، وكلما تأخر إجراء العملية زاد خطر الوفاة، كان الوقت يمضي سريعا وصحة الأم تمضي أسرع منه، وحالتها تسوء وتتدهور.
سطا الشقي على حُلِيِّ أمه في غفلة من الأسرة، وأعطاها لرفقاء السوء ليبيعوها له، فأخذوها ثم أخبروه بعد ذلك أن الذي اشترى منهم الغرض خدعهم واختفى، كان خاتما ذهبيا هو كل ما قدر عليه والده وقتذاك ليمهرها به، وقلادة ذهبية ثمينة أهدتها لها والدتها يوم زفافها بأبيه، نزعتها الجدة من رقبتها يوم ذاك وحلَّتْ بها جيد ابنتها، وتأمل هي كذلك الآن أن تنزعها من رقبتها ذات يوم، وتُحلّي بها جِيدَ أولى بناتها زواجا، حينما يأتي حَظُّها وتُزَفّ عَرُوسًا، وهي اليوم باهظة الثمن مع غلاء وارتفاع سعر الذهب في السوق.
تأزمت الأمور وتعقدت داخل الأسرة لما انكشفت الأمور، فغادر البيت وقبلها كان قد غادر مقاعد الدراسة، ولجأ إلى مدينة بعيدة عن مدينته، حتى لا تطاله سلطة أبيه ولا يردعه رادع، وفي المدينة الجديدة جعل من رفقاء السوء أصدقاءه وخلانه، فالطيور على أشكالها تقع، وتعاطى معهم السموم بمختلف أنواعها، واقترف الآثام والموبقات، وارتكب جرائم السرقة والسطو.
هو الآن إنسان آخر غير الذي كان، استحكم فيه المرض وسرى في جسمه سريان النار في الهشيم، وأقعده عن مزاولة نشاطه المعتاد، ولم يعد يقوى على ذلك، خارت قواه وضعف جسمه كثيرا إلى حد الوهن، وشحب وجهه واستحال لونه إلى ما يشبه السواد، وقد كان ذا طلعة بهية وبشرة ناصعة البياض، شَخَّصَ له الأطباء حالته قبل عامين على أنه مُصاب بداء السرطان.
لما صار عاجزا عن أداء مهامه ضمن مجموعة الشر التي ينتمي إليها، قررت عصابته التخلي عنه وطرده من المجموعة، وحينئذ وقع الفأس في الرأس، وانقطعت كل الآمال وتبخرت كل الأحلام، حَـنَّ إلى والديه، وأخواته، وذكرياته، وبلدته، وجيرانه، ومعارفه، بعد أن انقطعت كل الأخبار عنه، وانقطعت أخباره عن الجميع طيلة عشر سنين، فعاد إلى مسقط رأسه ومهد طفولته وبساط شبابه، خائر القوى لا يكاد يقوى على الوقوف فضلا عن المشي، جمع ثمن تذكرة الحافلة من التسول، وهاهو يعود إلى بلدته وقد تغير الزمان ومعه الإنسان، وما بقي على حاله إلا الجبار الديان.
توجه رأسا إلى بيته، وقد كاد أن لا يهتدي إليه لتغير بعض المعالم والأشياء، دق الباب وقلبه يخفق بشدة، فقد اختلطت في رأسه أفكار كثيرة، وسيطرت على قلبه مشاعر عديدة، حتى أنه ليحس أن قلبه سينفجر من شدة الخفقان، ثم انفتح الباب، وفي لحظة انفتاحه أوشك قلبه أن ينفتح نصفين، فهو لا يدري من سيقابل أوَّلًا، ومن ستلتقي عيناه بعينيه بدايةً، لكن ظهرت امرأة غريبة في أوسط عمرها لم يسبق له رؤيتها، يلوح من عينيها ومعالم وجهها الجد والحزم، بقي واقفا أمامها صامتا لا يحير جوابا، باهتا كأنه سُحِر، لا يتحرك كأن على رأسه الطير، تدور عيناه في رأسه كالذي يُغشى عليه من الموت، لم تمهله المرأة إلا يسيرا، وسألته بنبرة حازمة حاسمة عما يريد، ومن لهجة المرأة ونبرة كلماتها تَبَيَّنَ له أنها ليست من أهل البلدة والمنطقة، فبعد سُؤالها له استفاق من حيرته، وجمع شتات نفسه، واسترجع قواه التي تلاشت بفعل الصدمة التي استولت عليه وذهبت بِلُبِّهِ وأطاشت بعقله، وكأنه كان ميتا ثم عادت إليه روحه ونُشر من جديد، وبعد تلعثم قصير قال: أمي... أبي... أخواتي... أين هم؟ هذا بيتنا... هذا بيت عائلتي، ومن أنتِ؟ وماذا تفعلين هنا؟ أخبرته أنها صاحبة البيت، وقد اشترته من صاحبه منذ تسع سنين، وتعيش فيه رفقة أسرتها.
نزل هذا الكلام على رأسه كالصاعقة، وكان وقعه أليما جدًّا عليه، ومُرًّا لا يُحتمل ولا يُطاق، صُدِم وفقد توازنه، وكاد أن يقع على الأرض من هول هذا الخبر المُفاجئ والصّادم والمُفجع، أغلقت المرأة باب ما كان بيته سابقا في وجهه ودلفت إلى الداخل، وتراجع هو وسَحَبَ نفسه إلى الوراء، وتقهقر إلى الشارع وهو يترنح، وقد أُثقلت نفسه بالهوان والخزي والسوء، وراح يتساءل في نفسه: أيُعقل أن والدي باع البيت؟! ولكن لماذا؟ وأين هم الآن؟
التقى ببعض من كانوا جيرانه، سألهم الخبر فأخبروه أن والده لما عجز عن توفير ثمن إجراء العملية لوالدته، فإنه اضطر لبيع المنزل لتوفيره، بعد تدهور حاد في حالتها الصحية، وصارت طريحة الفراش وتغلب عليها المرض.
كان والده بعد أن باع البيت ووفَّـرَ به مبلغ العملية، أخذ زوجته إلى المستشفى على عجل، وأُجريت لها العملية، وقبض الأطباء الثمن، ولكن الأم ماتت، ماتت وأخذت معها ثمن البيت وتركتهم دون بيت، وأما الوالد وبناته فقد اكْـتَـرَوْا لهم بيتا خربا في أحد أطراف المدينة، وهم حاليا يعيشون حالة مزرية من البؤس والشقاء والهوان ما الله به عليم، ويتفتت لهولها وشناعتها وبشاعتها الجلمود الأصم، لقد أصبحوا الآن يعيشون على صدقات المُحسنين، فالأب الذي كان يوفّرُ لهم الحد الأدنى من المصاريف للتّبَلّغ بها في عيشهم، صار عاجزا عن العمل، ولا يقوى على الوقوف والحركة إلا بشق الأنفس، بعد أن أُصيب بالروماتيزم في عظامه ومفاصله.
أحَـسَّ بالمرارة الشديدة المُمِضَّة وبالخزي والعار، واستشعر مدى سوء الجرم وبشاعته الذي اقترفه في حق أسرته وفي حق نفسه، دلَّه بعض جيرانه السابقين على قبر والدته، ذهب إليها وجلس عند قبرها بعد غياب طويل، ذارفا دُموع الحزن والأسى والأسف، نادمًا مُتحسِّرًا على ما فرط منه ـ ولكن بعد فوات الأوان ـ راح يخاطبها وينتحب: آااهٍ يا أماه، ليتني كنتُ مكانكِ، وليتكِ بقيتِ على قيد الحياة، أنا من قتلك يا أماه وليس المرض، أنا من قتلك يا أماه وقبلها قتلتُ نفسي، أنا سبب ما حل بأسرتي من ذل وهوان وشقاء وعذاب، أنا المجرم الذي لا يستحق الحياة، أنا... وخنقته العبرات وأغمي عليه.
لما استيقظ وجد نفسه في سرير في المستشفى وفي جناح العزل الطبي، وأسلاك كثيرة ملتصقة بمختلف أطراف جسمه، ومتصلة بأجهزة تحيط به، نظر يمنة ويسرة وبالكاد فعل، فهو يحس بوهن شديد وتهالك في جسده، غير مدرك لما حل به، ولا عارف للمكان الذي هو فيه، ثم يدخل الطبيب ومعه مجموعة من الممرضين والممرضات، يخبره أن داء السرطان الذي بجسمه قد أصبح في حالة متقدمة، إضافة إلى أعراض أولية لداء الإيدز، ويُوصيه بالصبر على القضاء والقدر، والتسليم لإرادة الله ومشيئته.
بقلم: عبد الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية
كل التفاعلات:
محمد احمد حسن وارق ملاك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

(لا تزال عالقة) بقلم عواطف فاضل الطائي

(لا تزال عالقة) حلقة مفرغة من الخيارت تراوغها بيقينها ان القدر سينظم لهما لقاء وكأن الحياة قد توقفت في تلك اللحظة.. لا تعرف ماذا تفعل هل حقا...