الخميس، 28 سبتمبر 2023

 (تيَّارٌ وريح / ربيع دهام)

وما إن وصل تخوم الصَّحراء حتى هاله ما رأى.
رمضاءُ روحٍ، وكثبانُ رملٍ لا تنتهي.
ماذا تُراه يفعل الآن؟
توقَّف في مكانِه. حاولِ استرجاع أنفاسِه المُضطربة.
أَملَ ترويض حصانَ أفكارِهِ الذي ركلت مؤخَّرتِه
الصَّدمةُ.
إن أكمل المسيرَ، شتَّتت قافلتَه الرِّمالُ الحارقة وبعثرَتْها.
ثم التهمتْها واحدةً بعد الأخرى.
وفي الأخيرِ جفَّفتها.
وإن بقي في مكانه، تجمَّد في غمدِ وَحْلِهِ حتى صار
في حراكِ الدنيا مستنقعاً.
مستنقعٌ جامدٌ لا حول له ولا قوَّة.
يرمون ماءَه بالوردِ، ولا يُبالي.
يقذفونه بالحصى والقاذورات، ولا يعترض.
وتدهسُ كرامتَه الحياةُ، ولا يحتجُّ.
مستنقع؟! ومن يريد أن يكون مستنقعاً؟
جسدٌ مشلولٌ لا يقوى أبداً على الحراك. أهذه آخرته؟
هو الذي قطع مسافةً بعيدةً كي يصل إلى هنا.
وهو المكّوكُ، الدائمُ الحركة، الذي لا يريد أن يندثر. ومن يريد؟
وهو الذي لا يبتغي أن يتحوَّل تمثالاً. ومن يبتغي؟
" تبخّرَ"، سمع صوت الريح تزأرُ في وجهه.
" أتبخَّر؟!"، سأل الريح وكأنَّه يسأل نفسه.
ركلَ الرملَ تحته، وأردفَ: " لا! أنا لا أريد أن أختفي.
لا! ولن أُسجَن هنا. أو أُدفَنُ هنا. أتعرفين؟ أتعرفين مَن أنا أيتها الريح؟".
"ومَن أنت؟!"، سألته الريحُ.
" أنا. أنا أتيت من هناك. من قمّةِ الجبل. أترين كم هي ساميةً؟
أنظري. وكم هي عاليةً؟ وشامخةً؟
وتريدينني؟ تريدينني هكذا أن أتبخَّرً وأختفي؟
لا! لا أيتها الريح. مَن قارع الأعالي كالمُنتصِرْ،
لا يختفي في جحره ويندثِرْ".
" إذن ماذا تريد أيها التيّارُ الغضوبُ؟"، قالت الريحُ.
"أريد. أريد العودة لهناك. أما مِن سبيلٍ لذلك؟"،
همس التيّار المائي في أذن الريح.
" نعم. ولهذا أقول لكَ تَبخَّر. تبخَّر ودع الشمسَ تأكلُكَ.
دَع نورَها يلتهم جلدكَ. اتركه ينهشُ كيانَك وسترى".
"سأرى؟ ماذا سأرى؟"، قال بصبرِ ماردٍ حُشِرَ في زجاجة.
أجابته الريحُ: "ستمسي تحت أنامل الشمسِ رذاذاً.
وسيحملك الهواء على جناحيه. وستصبح وكأنّك جزءٌ منّي.
وستذوب معي. وتطير معي.
وسأرفعك في حضني إلى السماء حتى تمسي غيمةً.
وستحلِّق في العُلا سحابةً، إلى أن ترى قمَّة الجبل تسجد تحت قدميك.
وعندئذٍ، ستغدو قطراتٍ من الثلج ومن المطرِ،
وتتساقط هُياماً على الجبلِ.
ومثل حبيبٍ، سترجع أنت إلى حبيبتك.
تعود إلى هناك، من حيث أتيت".
"ماذا تقولين أيتها الريح؟ أتقولين أنَّه عليَّ أن أموت
كي أحْيا من جديد؟"، سألها التيّارُ.
أومأت الريحُ برأسِها.
ثم اقتربت مِن أُذُنِ التيّارِ. ابتسمت وهمست: "الشرنقة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكوى الطبيعة

  شكوى الطبيعة همست ْ بأذن ِالليل ِ أغصان ُالشجر ْ تشكو حنين َ الروض ِ شوقَـَه ُ للقمر ْ والورد بثَّ غرامه ُ متــلهـِّـفا للنور ِ يغمر ُه ُ ...