السبت، 30 سبتمبر 2023

 ( مِن شواطىء الأيّام / الحلقة الأولى: "الجريدة" / بقلم ربيع دهام)

قفزتْ نظراتُها من ساعةِ يدها لساعةِ الحائط.
عقاربُ الساعتين متوقّفةٌ. أمّا هي، فلم تتوقَّف.
أكملتْ بحثَها الدؤوبِ.
أخيراً وجَدَتْه. جالسٌ في المرآب أسفل البيت،
كان يلفُّ، ومثل عادته، رِجْلاً على رجلٍ، وإلى جانبه، تركن، فوق منضدة خشبيَّة صغيرة، عِدّةُ المتَّة.
الصينيَّةُ النحاسُ القديمة، والكأسُ الخشبيَّةُ والماصَّةُ، وصحن زجاجي دائري وُضِع فيه ما تيسَّر من الفول السّوداني الرخيص.
لكن لماذا كان يجلس في المرآب؟
معروفٌ طبعاً الجواب. لكي يهربَ منها.
تقدَّمتْ. حامت قربَهُ. حاولتْ كشَّ الذباب، الحائم بدوره، حول الجريدة المتسكِّعة بين يديه.
" فريد!"، نادتهُ.
لم يجبها.
"فريد!"، عادت ونادتْ.
وبعد هنيهاتْ،
" نعم"، همس، دون أن يعير وجودها أي اهتماماتْ.
تنهَّدت كمن تهيِّئ سهاهمَا للرميِ، ثم قذفته بسؤال يُعلِن
قرعَ طبولَ النَّكَدِ:
- " ألا يزعجك هذا الذبابْ؟ ألم تملّ من قراءة أخبار الكلابْ؟".
رفع رأسه. التفتَ يميناً ويساراً. حدّق في كل شيءٍ إلا هي. ثم عاد
ليتصفَّح الجريدة.
لم تعجبها قلّة اكتراثه بها، فعادت وصاحت: "فريد!!".
"نعم"، وللمرَّة الثانية يجيبها.
وللمرَّة الثانية تسأله: " قلتُ لك. ألا يضايقك هذا الذباب؟".
نزع عن عينيه نظّارته الطبيَّة. تنهَّدَ. مشَّط وجهها بنظرات مدجَّجة
بسلاح الشَّنفِ، ثم أفصح لها عمَّا في بركانِ مهجتِهِ:
" بل تزعجينني أنت يا عفيفة!".
لم تغضبها إجابته هذه.
فطبيعي في العلاقات الزوجيَّة العصريَّة، أن ينزعج الزوج من وجود زوجته،
إلا في لحظات تحضير طعام الغداء والعشاء.
ومن الطبيعي أيضاً أن تنزعج الزوجة من وجود زوجها ... في جميعِ الّلحظات.
طوَت قامتَها المديدة. حاولت قراءة عناوين الجريدة.
لفتَها خبرٌ:
"جنبلاط: قد آن الأوان الدولة المدنيَّة في لبنان".
ابتسمتْ. زقزقت. كلَّمَتْهُ بصوتٍ شغوفٍ:
" أخيراً جاءنا التصريحُ المفيدْ.
الدولة المدنيَّةْ. أقرأتَ الخبرَ يا فريدْ؟!".
ورغم أن خبراء أميركيِّين كانوا قد اكتشفوا سابقاً وجودَ سبعة عشر تعبيراً مختلفاً لوجه الإنسان تُظهِر الشُّعور بالسَّعادة، فإن أيٍّ من هذه التعابير السَّبعة عشر، لم تكن بادية على مُحيَّا فريد.
بل على العكس من ذلك، كان كلام زوجته ينقشُ على صنديحته مُعلَّقاتٍ مجنَّحة من قصائدَ الهجو والقَرفِ.
بل كان صوتها، وباختصار شديد، مزعجاً له كضرب أجنحة البَعوضِ وهي تفترشُ قناة الأُذنَيْن.
ولم يكن هذا، على الأطلاق، مستغرباً.
فطبيعي، في العلاقات الزوجيَّة العصريَّة، أن تسامر عدَّةُ القرفِ، كما عدَّةَ القهوة، أو الشاي، أو المتِّة، أي جلسةٍ بين "الحبيبين".
صبَّ فريدٌ نظراتَهُ المستذئبة على عفيفةٍ، وتَقيَّأ أمامها الخبرَ المُبين:
" هذه الجريدة قديمة. عمرُها سبعون سنة".
"سبعون سنة؟!"، سألته بتهكَّمٍ واستغرابٍ، قبل أن تكمل،
وكأنَّها لم تصدّقْ ما قاله:
" وهل كان جنبلاط بالغاً منذ سبعين سنة؟!".
ظنَّت نفسها حشرتْهُ في خانةِ اليِكِ، فراحت تسخر منه وتتهكّم.
صفن قليلاً. تمنّى لو أنّه شبَّ عليها وخَنَقها بكلتا يديه.
لكن عوضَ ذلك أجابها بلسانٍ يشبهُ فوَّهةَ مدفع:
"إنّه كمال جنبلاط وليس وليد جنبلاط أيتها الحمقاءْ".
قال هذا بنبرةِ هجاءٍ تفوق تلك التي نظَّمها الفرزدق بحقِّ بني كُليبٍ حينما رندحَ:
"أَلا إنّ اللئامَ بني كليبٍ شرارُ الناسِ من حَضَرٍ وبادِ
بأَرباقِ الحميرِ مُقَوِّدوها وما يدرون ما قود الجيادِ".
وقبل أن تهمُّ هي بالردِّ عليه بهجاء بمستوى هجاء أبو الشمقمق،
سُمِعَ صياح ديك الجيران وهو يهجو بدوره أفولَ الليل، حينما أذاع نبأ بدء ترنيمات طلوع الفجرِ، أو بالأحرى، نعيات طلوع الروح:
"كو كُكووو كووووو...كو كُكووو كووووو".
أي، "السَّاعة السَّادسة صباحاً".
وفيما كاد الديك يُنهي تِلاوةَ نشرتِه الفجريِّة، حدَّقت عفيفة في
عيني زوجها وأفصحتْ:
" باللهِ عليك يا فريد. إذا كانت الأخبار هي هي، ولم تتغيَّر منذ عشرات السنين، فلماذا؟ لماذا تشتري الجرائد كل يوم؟ لماذا طالما أنَّه
لا يوجد عندنا شيءٌ جديد؟".
وبغير مبالاةٍ، تابعَ تصفُّحِ جريدتِه، ثم همسَ،
مِن دون يلتفت نحوها: "الموتُ".
"الموتُ؟!...ماذا تقصد بالموت؟"، سألَتْهُ.
"الموتُ. الموتُ هو الجديد الوحيد يا عفيفة. أقصد صفحة
الوفيَّات اليوميَّة".
" وما همُّك بصفحة الوفيَّات اليوميَّة؟"، قالت باستغرابٍ شديدْ.
لدقائق، لدغَ صقيعُ الصَّمتِ نبضات المكان، فجمَّد فيه إكسيرَ الحروفِ.
هذا قبل أن ينتفض وتعود له دورةُ الحياةِ من جديدْ. أجابَ "عفيفتِهِ" فريدْ:
"لأعرف إذا ما مات طفلنا أو بعد".
"طفلُنا؟!"، سألته عفيفة. " لماذا تقول طفلنا ونحن لا أطفال لدينا بعد يا فريد؟"، أكملت.
أجابها وعناد المآقي أبى أن يفرج عن دمعةٍ صغيرةٍ كادت أن تنعتق من جُحرِها، وتنزف:
" لأنَّ...لأنَّ أطفالَنا يولدون هنا أمواتاً يا عفيفة".
كل التفاعلات:
ارق ملاك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

(لا تزال عالقة) بقلم عواطف فاضل الطائي

(لا تزال عالقة) حلقة مفرغة من الخيارت تراوغها بيقينها ان القدر سينظم لهما لقاء وكأن الحياة قد توقفت في تلك اللحظة.. لا تعرف ماذا تفعل هل حقا...