موت الشاعر
هنا بقي، يحمل نعشه الأخير ولم يرحل،
لم نودعه، وودعنا. قتل آخر كلماته بصمت حين فقد معجم اللغات أمام آخر الآيات على قبره الصغير قبل أن يرحل.
رأيته يشعل آخر سيجارة له أمام فتحة صغير أسماها نافذة،
كتب عليها اسمه وعنوانه وتاريخ ميلاده.
غريب قال لي أن له مئات الأولاد.
ويموت وحيدا ؟
لم يسمح للهواء بدخول قاعة بيته الصغير، لأنه أراد الانتحار على غصن وردة ،فحمل أول شوكة وغرسها بقلبه ولم ينزف دما ،بل
أشعارًا وتاريخًا .
ورمى على قبورنا كل الورود وكتب حروفه ،يرثي رحيلنا ،وهجرة السفن الأخيرة.
سمعته صرخ أحيانا ،
لماذا تكذبون وتصوروا التاريخ بلا نقاط؟
تريدون قتل الشعراء دون ذنب.
كان الصمت سيدنا.
هل يكتب الشعراء دون نقاط وحروف؟
قد يكتبون بعيونهم ألوان الحياة ،وزغاريد العصافير المهاجرة.
كان يقف خلف قوس قزح كآخر الرحالة بعصر الأموات أو الأحياء .
قال بصوت عال أرثي أرواحكم ايها الإحياء
أنا أرفض كل العهود.
حتى خريطة العودة وأركان الصمود.
لم يكن قلمي من حبر، فقد أهدتني إياه الأحلام ،هو وحي يكتب المستقبل بحروف من ذهب، وكلمات من الواقع ،وأحيانا ينزف كاي ضحية على أعواد المشانق.
انا الشاعر.
الذي لم يمت بل وقف على قدميه ينظر حفلة الرحيل إلى اليوم الآخر ولم يركع.
كتب لنا عن الشوق خرافات وعن الألم أجمل المعاني وأنبلها.
فأصبحت أشتاق لأمي وخبز أمي ودمع أمي.
لم يكن مسيحيا ولا مسلما ،فهو وحده من حطم الحواجز كلها، ليكون أقرب إلى الله ممن يدعون النبوة بعصر النفاق والجاحدين، وادعى النبوة بعصر لا أنبياء به.
فجلس على كل العروش بكبرياء وضخ الحبر دما ودمعا وأشعارًا
فتعالت قصائده ليست حروفا.
بل جمرًا وشعاعًا من نار.
هو آخر وأول الشعراء.
لم يغن فقد كره الغناء بزمن الجاحدين، والمنافقين والتجار.
ورحلنا كلنا وتركنا خلفنا مجاهد يحمل حدائق البرتقال ،ورائحة أريحا، وصوت بيروت، وأمواج البحر، وصرخات فيروز والمن والسلوى ،وسفرجل الشام وقات اليمن.
وقام بدق أجراس العودة.
ويا قدس.
رحلنا ولكنه بقي واقفا، أبى أن يموت إلا قريبا من البحر ،ليمتطي آخر القوارب باتجاه الوطن.
أبى أن يحفر قبره وحده بعيدا عن كل المقابر
فحفر حفرة صغيرة بين سطور الشعر ،وعدد الصفحات ؟ونام خالدا على آخر صفحة.
فقص علينا كيف تغرق السفن حين تهاجر، وكيف يموت العظماء واقفين دون الركوع.
وكيف تسقط دمعات أمك حين تحن إليك
حدثنا عن خبز الأم ،والشاي وصوتها ،وقهوة الأب.
علمنا كيف تغرق الفراشات أمام الأعاصير ،وكيف يموت قوس قزح.
ورسم لنا أثواب الفلاحات بأجمل الألوان، وصراع الأرض مع أغصان وجذوع الزيتون.
ولم يرحل.
حدثنا عن الفرات ودجلة ورحلة الصيادين بين أمواج الدموع، ورحيل الابن قبل أبيه وأمه.
ودعنا حين متنا، ولم يمت، وبقي الحي والشاهد الوحيد على هجرة العصافير من عشها، راحلة فوق كل الأمواج، تحمل ما تبقى من الضمير المسروق.
فلا وداعا أيها الشاعر.
فأنت البقاء.
وأنت الزمن.
طلعت كنعان
فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق