قصة قصيرة: الخروف وقاضي الغابة الخضراء.
بينما كان الضبع يتجول في الغابة بحثا عن طعام، إذا بخروف يسد عليه مساره، قد أقبل يعدو مرعوبا، يكاد نفسه يتقطع من كثرة الجري وشدته، فما إن رآه الضبع حتى تهللت أساريره، وشعر بالفرح والسرور، وقال في سره: ظفرت والله بصيد، وحيَّا الله أبا زيد، فهذا رزق حميد جيِّد، وسَتُسَرّ أم عامر وأبناؤنا لهذه الوليمة الفاخرة الدسمة، التي تُسيل اللعاب وتُسَرِّي عن النفس البائسة المُعدمة، وتجعلها مبتهجة وبالسرور مُفعمة، ثم دون تردد قال للخروف بنبرة هادئة وديعة: لم تعدو هكذا يا صغيري؟ كأن عـدُوًّا مَا يُـطاردك؟ أخبرني عنه ودُلني عليه، وسترى ما أنا صانع به.
ارتاب الخروف من الضبع إذ لم يكن رأى ضبعا من قبل، وقال له: ولكنني يا سيدي لا أعرفك، ولا رأيت شبيها لمثلك، فمن تكون سعادتك؟
الضبع(مصطنعا اللباقة واللياقة): أنا يا صغيري، السيد الوقور المحترم، ناصر المستضعفين، والمدافع عن حقوق المظلومين، سعادة الضبع العظيم، العادل الأمين، أنا قاضي الغابة الخضراء، الذي يهابه الأصدقاء قبل الأعداء، لفرط عدله الذي لا يستثني الدهماء ولا الكبراء، أخبرني عـمَّـن ظلمك وأفزعك وأرعبك كل هذا الرعب، حتى صرتَ إلى ما أرى؟
الخروف(متأثرا وباكيا): عـدا الثعلب على شيء خاصتي وادَّعاه لنفسه، ولما لم أُسَلِّم له بالأمر، وقد احتدم الجدال واشتدَّ النزاع، وتفاقم الصراع حينها، احتال عليَّ ودلَّـني على الذئب لأعرض عليه القضية، وأوهمني أنه قاض عدل، يحكم بالحق ولا يحيد، ويضرب على يد الظالم بقبضة من حديد، فذهبت إليه وشكوت إليه سوء صنيع الثعلب معي، وظننته ناصري وآخذا لي بحقي، فثار في وجهي ونهرني: اخرس قليل الأدب عديم الحياء، أتشكو حبيبي الثعلب إليَّ، أما بلغك الخبر يا غـبي أننا في هذه الغابة وُلِـدنا معا، وفي وِهادِها وشعابها وأدغالها وأحراشها نشأنا وترعرعنا إلى أن كبرنا على تعلم فن الافتراس سويا، إنني أستغرب لجرأتك الوقحة المقيتة على المجيء إليَّ غير مُقَدِّرٍ للعواقب ولا آبها لشيء، وحتى أُقَـرِّبَ إليك الفهم أكثر عـسى أن تكون من العاقـلـيـن الآن، ومستقبلا إن قُدِّرت لك السلامة ونجوت، وعشت حتى ذلك الحين، فأنا في هذه اللحظة شبعان حتى التخمة، ومزاجي سيِّء وأرغب بأخذ قيلولة، فللقيلولة فوائد جمَّة لا يعرف قيمتها ولا يُـقَـدِّرُ عظيم نفعها إلا العارفون العالمون الواعون، فهي تُريح بدني وتُـهَـذِّبُ طباعي وتصقل تفكيري.
أنت محظوظ لوقوفك أمامي مستمعا لكلامي طوال هذا الوقت، فغيرك لم يحظ بفرصتك، ولم يغنم حظا وسلامة كما غنمتهما أنت.
اسمع أيها الغِـرُّ الغبي لقد أخذت تنتابني في هذه اللحظات مشاعر مضطربة ومتشنجة وخواطر سيئة، وأخشى أنني سأغير رأيي فيما عزمتُ عليه بشأنك، وأُقْـدِمُ على أمر هو من صميم عاداتي وطباعي وأخلاقي ولكـنه لا يسُـرُّك، أصارحك القول ولم أصارح أحدا قبلك، ولا أظنني سأفعلها مع غيرك، ولا معك أنت لو يُقَدَّرُ لنا اللقاء مرة أخرى، إن سلمتَ الآن وظفرت، وخرجت من هنا سالما مُعَافًى ولا أضمن لك ذلك، وأنصحك قبل فوات الأوان ولعله ثوان، فأنا لو كنت في مثل موقفك وظروفك لاستدبرت مُحَدِّثِي، وأطلقت للريح سيقاني وما التفتُّ ورائي، ولا توقفتُ لحظة واحدة لأستريح وألتقط أنفاسي، إلا بعد أن أبتعد وأوقن بأن لا خطر يُحدق بي ويتهددني، وأنِّني بخير وبوضع مُريح، بعد سماعي لكلام كهذا أو أشباهه، فأنت حقا لا تُدرك ولا تعرف كيف ينظر الذئاب إلى غيرهم ولا كيف يفكرون، اغتنم هذه الفرصة وعُدَّها غنيمة وضربة حظ، لأن الحظ والفرصة مرة واحدة فقط عمرك كـله، وإني أراها كـذلك، وأنا أحسدك عليها.
سأعُـدُّ لثلاثة وإن بقيت ولم تغادر وأدعو الله أن لا تغادر، فإنني سآمر أمعائي بأن تتجهز في الحين وتُخلي حَـيِّـزًا منها لاستقبال وجبة العشاء مُضافة إلى وجبة الغداء جمع تقديم، واحد، اثنان، ثلا... .
ففررت منه ولم يُـتـم الثلاثة، ومن حينها لم أتوقف لآخذ قسطا من الراحة، ولا التفَتُّ ورائي، بعد أن أدركتُ سوء نيته، وفساد عقيدته، وخساسة طبعه، وسقـوط هـمَّـته.
الضبع(مصطنعا الصرامة والجد والحزم والعـزم): اسمع يا ولدي المظلوم، أنا الآن أشعر بغضب وغيظ شديدين لما حدث لك، وسآخذ لك بحقك اليوم وليس غدا، بل الآن وليس بعد قليل، أيحدث هذا وأنا القاضي؟ لا والله، لا عشتُ إن حـدث هـذا، سَـتُـسَـرُّ لما أنا فاعـله لأجل قضيتك، تعال يا ولدي أحملك فوق ظهري، فإني أراك مُـرهقا لا تكاد تقوى على المسير، ونذهب سويا لبيتي، حيث زوجتي الطيبة الودود أم عامر وأبنائي الطيبين الودودين، سيُنسونك بطيبتهم وكرم أخلاقهم ما أزعج بالك وكـدَّر خاطرك، وسيستقبلونك بفرح وسرور وترحاب وعناق وتقبيل، لم تر مثله في حياتك قط، وسنتناول طعامنا ثم نستريح قليلا، وتدلني بعد ذلك على مكان الثعلب والذئب.
ثم مكملا في سره: بعد أن أنتهي منك، سأُثَلِّثُ الوليمة بذينك التافهين الغبيين، فأنا أعرف أين أجدهما.
فرح الخروف بما سمع، وأثنى على الضبع وامتطى ظهره، وانطلق به الضبع إلى مغارته حيث زوجته وأبناؤه، وراح يقول في سره: الخَلْقُ في هذه الدنيا من حيث الـرِّزقُ صنفان: صنفٌ يكد ويشقى ويتعب، ويحمل رزقَه على ظهره مُكرها مُرغما مُتحمِّلًا لا بطلًا، وصنفٌ يحمله رزقُه فوق ظهره مُمتَّعًا مُرَفَّهًا، بطلًا مُمجَّدًا وإن كان سفيها سفلًا.
ويُستثنى من هذا الكلام مِثْلُ هذا الذي فوق ظهري، فهو في مُعادلة الحياة رزقٌ للصِّنفين، سواء أكان مِثْلُه على أربعٍ يمشي، أم على رجلين.
بقلم: عبد الكريم علمي
الجمهورية الجزائرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق